أما وقد سلكت الحكومة مسار الثقة السهل، صار من المناسب البحث في أولويات برنامجها السياسي. رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أكد أكثر من مرة أن هذه الحكومة ليست حكومة العهد الأولى، وأن عهده يبدأ فعلياً بتشكيل حكومة بعد انتخاب مجلس نواب طبق قانون يضمن صحة التمثيل وشرعيته. اذاً مهمة حكومة سعد الحريري على ما يكرّر الجميع، صياغة قانون انتخاب عصري يقره مجلس النواب، فتنتظم عجلة الدولة والنظام. هذا السيناريو يُحمِل العهد وقانون الانتخاب والناخبين والمُنتخبين أكثر بكثير مما تحتمل قدرتهم. الأحوال السياسية لن تتغير بين ليلة وضحاها بقانون أو بغيره.
البند الثاني في برنامج الحكومة، وهو نجم العهد من دون منازع: مكافحة الفساد. ولهذه الغاية استحدثت وزارة لمكافحة الفساد تدعمها وزارة للتخطيط المفترض أن تلغي أو تشرف على عدد من المجالس والصناديق التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، والذي خرج كلام كثير عن أنها منافذ هدر، من صندوق المهجرين الى مجلس الانماء والاعمار. وهذا أيضا يحتاج إلى سلوك جديد ومنهجيّة مختلفة في التعاطي مع المال العام، تستغرق وقتاً طويلاً.
البند الثالث الذي لم يتكلم أحد عنه بعد قد يكون هو الأهم والأبرز والداهم والذي يعني اللبنانيين والإقليم والعالم، ملف النفط والغاز المخبوء تحت مياه المتوسط، ووسائل نقله إلى العالم. ملف النفط، الثروة اللبنانية، يجب أن يكون أولوية البرامج الحكومية. منذ الكشف عن "البلوكات" البحرية قبل بضع سنوات لا تزال الدولة اللبنانية في مرحلة تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع الموعود، ومن دون أي توجه حقيقي يطمئن اللبنانيين إلى حسن إدارته، بسبب الخلاف بين أركان النظام وبين من يمثلهم في الهيئة، وفي ظل اتّهام الهيئة بأنها تعتمد نظاما لتقاسم الأرباح يضر بالمصلحة اللبنانية، وهو نظام قديم حلّ مكانه نظام تقاسم الإنتاج الأكثر إنصافاً لأصحاب الأرض والنفط، تكون الدولة ممثلة فيه عبر شركة وطنية. علماً أن أي من اقتراحات الهيئة التنظيمية لم يصبح قانوناً بعد. باختصار لا يزال لبنان نفطياً في مرحلة البحث في جنس الملائكة، بينما غيره من دول الجوار بدأ الإنتاج والتصدير، ودخل في شراكات بمليارات الدولارات مع كبريات الشركات العالمية، على الرغم من أزماته السياسية والأمنية كمصر مثلاً.
مع انهيار أسعار النفط وارتفاع المؤشرات الاقتصادية في الدول الصناعية بسبب تراجع أكلاف الطاقة، في أوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة وغيرها، صار في طليعة أولويات الدول الكبرى، زيادة مصادر الطاقة وتنويعها وحماية الطرق التي تعبر عبرها الأنابيب والناقلات والسفن. وفي هذا السياق جاء الاتفاق الروسي-التركي على خط أنابيب "السيل التركي" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. بالإضافة إلى غيره من الاتفاقات التي تلعب دول الخليج دوراً بارزاً فيها، خصوصاً قطر والإمارات. أما العنصر الأهم فيبقى اختيار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الرئيس التنفيذي لشركة "اكسون" النفطية ركس تيلرسون ليقود السياسة الخارجية الأميركية.
هذا الاختيار يعني أن الولايات المتحدة تقدم مصالحها الاقتصادية على هواها السياسي. فتيلرسون سينتقل من إدارة "اكسون" التي تفوق موازنتها بأضعاف موازنة وزارة الخارجية، إلى إدارة المصالح الأميركية وحلفاء أميركا. سينتقل من السعي لإرضاء حملة الأسهم في "اكسون" التي وقع باسمها صفقات بمئات مليارات الدولارات مع روسيا ودول الخليج واليمن وكردستان، إلى حماية وتعزيز كل المصادر المتاحة لاستمرار البحبوحة الأميركية وضمان ديمومتها. وهذا لا يعني أن الخبير النفطي لا يفقه بالسياسة بل على العكس تماماً، فهو بحكم مسؤوليته عن هذه الثروات يعرف أكثر من السياسيين عن خفايا تراكيب الدول التي يعمل فيها. وهو لحماية مصالح شركته وتحوطاً للمخاطر التي قد تواجهها، عليه معرفة نظام تلك الدول السياسي. وكيف يعمل قضاؤها وقواها الأمنية؟ وكيف تقر قوانينها وتتوزع السلطات فيها؟ وماهية العلاقة بين وزارات الاقتصاد والنفط والداخلية بمختلف أجهزتها؟ وكيف تصدر تأشيرات الدخول وما هي القيود المفروضة على نقل الأموال واستيراد الاليات؟ وما هي النزاعات الكامنة والعلنية بين الأحزاب والطوائف والأقليات الأكثريات؟ بمعنى آخر يجب أن يعرف كل شيء. ويقول تيلرسون الذي ربما يكون أكثر معرفة بشؤون المنطقة حيث عمل في عدد من دولها وصديق وثيق الصلة بروسيا: "مسؤوليتي في إدارة المخاطر تتضمن... تطوير علاقات مهمة... عندما تريد أن تقدم التزامات مهمة فإنه يجب عليك أن تنظر إلى رئيس البلد في عينيه، وتقول له إنك ستقوم بذلك الالتزام وسأعتمد عليك في أن تقوم بالتزام مماثل اتجاه (المشروع)؛ لأنني سأكون هنا لفترة طويلة". هذه هي السياسة العالمية الجديدة التي على العهد التعاطي معها.
العصر النفطي على الأبواب وبات من المعيب أن نكون خارجه. ورئيس العهد بيده وزارات الطاقة والعدل والخارجية والدفاع، ويمون بنظافة كفه وبحساسيته ضد الفساد والإفساد على باقي الوزارات، فلتكن أولوية الأولويات اقرار قانون عصري للنفط والتشمير عن السواعد لبدء العمل. النفط والغاز قد يكون وسيلة لحماية لبنان، وإنهاء الحرب على سوريا، علماً أنه أحد أسبابها. وربما كان أحد أسباب التسوية الرئاسية والحكومية في لبنان. وقطاع النفط يعني استثمارات هائلة في باقي قطاعات الاقتصاد من النقل إلى الإعمار والبنى التحتية والاستهلاك اليومي بكل أشكاله.
ما كل ما يتمنى مستثمرو النفط يدركونه، تطيح المغامرات السياسية، غير المحسوبة، ثروات تحت الأرض وما فوقها. النفط فرصة لقيامة لبنان، هل يغتنمها العهد؟