كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، عند تولّيه الرئاسة سنة 2009، يريد الانسحابَ مِن العراق، ومِن «مستنقع» الشرق الأوسط، في أسرع وقت ممكن. وبالفعل انسحب من العراق بعد أقل من ثلاث سنوات من تولّيه الحكم.
لم تكن ثقة أوباما بالدول العربية الشرق أوسطية كبيرة، على رغم كونها حليفة أميركا التقليدية، إذ كان يعتبرها غير ديموقراطية ولا يمكن الإتكال عليها في الأمد البعيد.
ركّز أوباما كل قواه على إنجاز الإتفاق النووي مع إيران، بمساعدة الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن زائد ألمانيا (الخمسة زائداً واحداً). كانت عقيدته الشرق أوسطية تعتبر أنّ هذا الإتفاق سيقوي الرئيس حسن روحاني والمعتدلين في إيران، فتنفتح إيران في النهاية على الغرب، وتصبح حليفة لأميركا كما كانت في عهد الشاه، فتساعد بالتالي على حفظ الأمن والإستقرار في المنطقة. وقّعت الدول الخمس زائداً واحداً الإتفاق في تموز سنة 2015 وأنتُخب روحاني مجدّداً للرئاسة الإيرانية سنة 2017، ولكنّ القوى المتشدّدة في إيران أبقت أميركا الشيطان الأكبر، وظلّ الكونغرس الأميركي على عدائه التقليدي للنظام في إيران.
اضطر أوباما للعودة إلى المنطقة في حزيران 2014 بعدما انتشرت عناصر «داعش» في العراق وسوريا. فركّز على محاربتها من دون التعرض للنظام السوري المتهالك في حينه، ما سمح لروسيا بالدخول إلى سوريا وقلب موازين القوى لمصلحة النظام. كذلك أسس الروس قاعدتين عسكريتين كبيرتين ووقّعوا معاهدة مع النظام السوري تسمح لهم بالبقاء في سوريا إلى أجل غير مسمّى. وبينما كان الروس يؤسّسون لوجودٍ مهيمنٍ ودائمٍ في سوريا، كان أوباما يُنَظّر بأنّ الروس سيغرقون في المستنقع السوري.
جاء دونالد ترامب إلى الرئاسة في بداية 2017 حاملاً عقيدةً شرق أوسطية مختلفة تماماً عن عقيدة أوباما. الإدارة الأميركية الجديدة تريد العودة إلى منطقة الشرق الأوسط لتمارس من جديد دورها القيادي فيه.
وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن أكثر من مرة أنّ أميركا ستبقى في سوريا إلى أجل غير مسمى. وكانت الإدارة الأميركية قد أعلنت قبلاً أنها ليست في صدد الإنسحاب من العراق. حاول الروس اختبارَ تصميمها على ذلك في دير الزور الشهر الماضي فخسروا المئات من قواتهم الرسمية وغير الرسمية. إستراتيجية الأمن القومي الأميركية التي أعلنها البيت الأبيض في كانون الأول الماضي واضحة في هذا المجال. من شروط العودة هو تحييد إيران من المعادلة الشرق أوسطية (وبالتالي استبعاد الرئيس بشار الأسد) واستبدالها بتحالف سنّي تقوده المملكة العربية السعودية بمشاركة دول الخليج ومساندة مصر.
يعتبر مصمّمو هذه الإستراتيجية، خصوصاً وزيرا الدفاع جايمس ماتيس والخارجية ريكس تيلرسون، أنّ تسليم أمن المنطقة إلى إيران، إذا نجح، سيؤدي إلى حرب مذهبيّة بين الشيعة والسنّة. وعلى كل حال، تعتبر الإدارة الأميركية الحالية أنّ إيران هي راعية كبيرة للإرهاب في العالم، إضافة بالطبع إلى الخطر الذي تشكله بالنسبة لإسرائيل.
لا يخفى على الإدارة الأميركية أنّ روسيا ستكون عقبة كبيرة في وجه العودة الأميركية إلى المنطقة. روسيا قد حصلت، بالطبع، على معظم ما أرادت من تدخّلها، موطئ قدم قوي في سوريا، وتريد اليوم التخفيف من كلفة الحرب القائمة لأسباب ليست إقتصادية فحسب، بل سياسية داخلية أيضاً. فقد أظهر استطلاع حصل أخيراً أنّ حوالى ثلث الروس فقط يساندون التدخل في سوريا، وذلك قبل حصول الكارثة للقوات الروسية في دير الزور.
ولكن أكثر ما يخيف الرئيس فلاديمير بوتين في هذا المجال هو أن تتدخّل أميركا من خلال تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، خصوصاً تلك المضادة للطائرات، كما فعلت مع الإتحاد السوفياتي في أفغانستان في أواخر الثمانينات (صواريخ ستينغر الشهيرة)، ما اضطر السوفيات الى الإنسحاب مكسورين من هناك، وما ساعد على انهيار الإتحاد السوفياتي بعد سنتين.
هناك أدلّة على أنّ الأميركيين بدأوا فعلاً بإرسال رسائل بهذا المعنى. ففي ليلة رأس السنة 2017 حصل قصف مدفعي مكثّف على قاعدتي حميميم وطرطوس، من مسافات بعيدة غير ممكنة للمعارضة، أسفر عنها خسائر بالأرواح والعتاد. تبع ذلك بعد بضعة أيام هجوم جوّي بـ 13 طائرة من دون طيار (درون) على حميميم ما تسبّب أيضاً بخسائر مادية. وفي 2 شباط أسقطت طائرة سوخوي 25 فوق إدلب.
هذه الحوادث لم تتكرّر، ما أوحى لكثير من المراقبين بأنها قد تكون رسائل أميركية تذكّر الروس بأفغانستان. ما رجّح هذه الفكرة أيضاً، هو التصريح الروسي الرسمي بأنّ طائرات الدرون جاءت من مسافة كبيرة ليست من ضمن قدرات المعارضة، وأنها مصنوعة بتقنية متطوّرة جداً لا توجد إلّا في بعض الدول المتقدّمة تكنولوجياً (إقرأ أميركا).
العقبة الأخرى التي تواجه أميركا في محاولة عودتها إلى المنطقة هي طبعاً إيران ووجودها العسكري المكثّف في سوريا والعراق. غاية أميركا هو الضغط على إيران، لربما بمساعدة روسية، أو على الأقل بحياد روسي، لجلبها إلى طاولة المفاوضات حول ملفات المنطقة المتعلّقة باليمن، والبحرين، والعراق، وسوريا، ولبنان، بهدف تحييدها، ولجم الميليشيات التي تساندها، مقابل رفع العقوبات عنها، ولربما أيضاً مساندتها اقتصادياً.
الضغوط التي تمارسها أميركا على إيران متعدّدة الوجوه. فهي تهدّد بالانسحاب من الاتّفاق النووي، ما سيقوّضُه حتماً، وهي في صدد حشدِ مساندةٍ أوروبيةٍ واسعة لإيقاف برنامج الصواريخ الباليستي الإيراني، إضافة إلى مضيّها في مضاعفة العقوبات عليها وعلى «حزب الله». إيران لن تقف بالطبع مكتوفة.
فطائرة الدرون التي أرسلتها إلى العمق الإسرائيلي واستعمال الدفاعات الأرضية بكثّافة لم يسبق لها مثيل عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية مواقع داخل سوريا، ما تسبّب بإسقاط طائرة إف 16، لهو خير دليل على ذلك. ولكنّ بعض الليونة في الموقف الإيراني ظهرت أخيراً عندما صرّح المرشد الأعلى علي خامنئي بأنّ إيران مستعدة لدرس هذه الملفات مع دول الجوار، ولكن ليس مع الولايات المتحدة.
هل ستنجح أميركا في العودة إلى الشرق الأوسط كما تريد؟ ليس مؤكّداً. المؤكّد هو أنها ستكمل محاولتها في هذا الاتّجاه وأنّ الرسائل المتبادَلة لن تتوقف. وقد بدأ الأميركيون على ما يظهر التحضير لرسالة آتية.
فهناك تقرير حضّره خبراء بتوكيل من الأمم المتحدة نُشر أخيراً يشير إلى أنّ كوريا الشمالية ساعدت النظام السوري في الحصول على أسلحة كيماوية. وكانت الإدارة الأميركية قد هدّدت بضربة عسكرية لسوريا إذا ما تأكّدت الأمم المتحدة من أنّ النظام السوري قد استعمل مثل هذه الأسلحة، وقد أعلنت فرنسا وإنكلترا مساندتهما.
هذه الرسائل لن توصل إلى حربٍ بين الدولتين العظميَين لأنّ حرباً كهذه سرعان ما ستصبح حرباً إقليمية هما في غنى عنها. ولن تسمحا للقوى الإقليمية بالبدء بحرب ساخنة. إسرائيل لن تجرُؤَ على ذلك من دون ضوء أميركي غير متاح في الوقت الحاضر، وإيران والميليشيات المساندة لها لن تبادر إلى مغامرة كهذه من دون مساندة روسية لأنها ستكون مكلفة جداً.
ولذا فالمرحلة المقبلة المنتظَرة في سوريا هي مرحلة رسائل متبادَلة، وحروب محلّية، وتوترات دورية كالتي شهدناها أخيراً، ما يعني أنّ الحلّ السياسي ما زال بعيدَ المنال. في هذه الأثناء، فإنّ معاناة الشعب السوري ستتواصل، في ظلّ لا مبالاة دولية عديمة الضمير والرحمة.