بعد أيام على الهجوم الدامي من قبل عصابات «داعش» التكفيرية على قرى ريف السويداء الشرقي، تستجمع هذه القرى قوّتها وتوظّف إمكاناتها مع الجيش السوري لتأمين درع عسكري واقٍ ضد أي محاولة هجوم أخرى. «الأخبار» زارت الريف الشرقي والتقت بعض الأهالي
«الله أكبر... الله أكبر»، يختلط صراخ الملثّمين بصوت رصاصهم المنهمر على مدخل بيت أبو حسن (اسم مستعار، ستيني). «افتحوا الباب يا كفّار، ما رح نقتلكم، افتحوا الباب يا خ...ر».
كان الصمت في الداخل، السلاح الأمضى ضد الموت، في ذلك الليل الأسود المتجدّد قبل طلوع الضوء في قرية اشبكي شمال شرق محافظة السويداء. تُرى، كيف سيكون هذا الفجر، وأي موعد مع القهوة وحبّات الصُبير المقشّر، وهذا الفَوَات الدامي أتى يستعجل الفلاحين قبل الحقول؟
ضمر صبر الإرهابيين، وأبو حسن العابد المؤمن وزوجته وأبناؤهم الثلاثة أقعدهم الهلع في الغرفة الغربية الصغيرة من بيت البازلت، المرميّ على الكتف الشرقي للقرية. بِفُوَّهةِ البندقية، بدأ الإرهابي ينكش الزجاج الرقيق لمدخل البيت ليكسر فيه فجوة تصل عبرها يده إلى القفل الحديدي، والعائلة مكوّمة في فضاء يدي أبو حسن. بعد دقائق، أخرج «الدواعش» العائلة والذهول يقودهم إلى... المجهول، في شوارع القرية التي ربّتهم. اقتضت الخطّة أن يجمع المجرمون النساء والأطفال في ركن واحد، ويأخذوا رجلاً لينادي الأهالي، فيخرجوا حفاةً بلا سلاح، ثم يُجهزوا على الرجال، ويأخذوا «سباياهم» مع الانسحاب. هناك في قلب البلدة، استفاق الشيخ أحمد (اسم مستعار) وأولاده على صوت الرّصاص الآتي من شرق اشبكي واشريحي والعجيلات شمال القرية. أيقظ الكهل أولاده وجمعوا ما تيسّر من السلاح، «روسية» ومسدس وبندقية صيد بفوّهة واحدة، وشجاعة ونخوة. في ذهن الشيخ «الفزعة» لأقاربه وأهله. ما إن خرج الكهل وأولاده إلى باحة البيت، حتى بدأ رصاص القنص ينفجر حولهم... «فهمت إنو هجوم على كل البلد، وإنو ما في قدّامي أنا وأولادي كثير حلول، يا منقاتل يا منموت هون»، يقول الشيخ لـ«الأخبار» وهو يشير بيده من المضافة إلى ساحة القرية. في دار قريب، وصل الإرهابيون وكان ربّ البيت قد تنبّه لهم. في كتفه بندقية صيد، وفي يده «روسية»، لكنّ القنّاص الإرهابي كان أكثر حرفيّة منه، فأسقطه أرضاً. تسارع زوجته هلعةً إلى الدار. «تعالي يا حرمة. ما رح نسوّيلك شي»، يكذب الإرهابي. تقترب المرأة من زوجها ولا تنصت إلى تحذيرات المجرمين. هذا اليوم ليس يومها. يعاجلها الإرهابي بطلقة في الظهر، فترتمي فوق تلّة تراب صغيرة. ولكي يشفي الإرهابي حقده، يكرّر إطلاق النار على رأسها، ثم يعود إلى زوجها. يقول له زميله: «صفّيه صفّيه»، فيطلق النار على رأسه.
دفعت إشبكي فاتورة غالية. 30 شهيداً، و27 مختطفاً، هم 9 نساء وأربع فتيات بين الـ 17 والـ20 عاماً، و14 طفلاً وبنتاً.
لكن اشبكي دَفَّعَت المهاجمين أيضاً ثمناً غالياً. يقدِّر الأهالي عدد عناصر المجموعة الإرهابية التي هاجمت القرية بنحو 12 إلى 15 عنصراً، قتل منهم ثمانية، أي أكثر من نصف القوّة المهاجمة. ببسالة وغيرة، خرج من بقي من الرجال للمواجهة والصمود في انتظار «الفزعات» ووصول قوات الجيش السوري الآتية من مدينة السويداء.
الله أكبر عليكم!
ليس سهلاً على أبناء قرى المقرن الشرقي لمحافظة السويداء، أن يعيشوا على خطّ التصحّر. قرىً وتجمّعات سكانيّة مترامية على كتف البادية، تحوّل حياة السّكان إلى نضالٍ دائم، قُوتُهُم البساطة وخير الحقول، وعلى ألسنتهم مرويّات الأرض الطيّبة. لا يزيد عدد سكّان هذه القرى على ألف شخص في هذا الوقت من السنة. بعض القرى مثل قرية الغيضة، يسكنها 150 شخصاً، وفيها نحو 20 بيت، ومعظم البيوت خرج رجالها للعمل إما في لبنان أو في ليبيا.
خطّط الإرهابيون لتجميع النساء والأطفال لسبيهم، وقتل الرجال في اشبكي
في مضافة الشيخ أبو طليع مقلّد في قرية رامي، صورتان لولديه، طارق ويوسف، وعلم سوري كبير يزيّن صدر الدار. خسارة أبو طليع لا تقدّر بثمن. طارق، جندي في الجيش السوري يقاتل منذ سبع سنوات على غالبية جبهات سوريا، وعاد قبل أيام لقضاء إجازة مع أهله قبل عودته إلى خدمته. أما يوسف، فشاب مصاب بمتلازمة «داون»، حركته بطيئة ولسانه ثقيل. سمع طليع إطلاق النار في القرية، فخرج بمسدّسه مع والده ليستطلعا ما جرى. دقائق ويفهمان أن ما يحصل هجوم من مجموعة مسلّحة على البلدة. يهرع طليع للعودة إلى بيته، «خليني جيب أمي ويوسف يا بيي»، يقول أبو طليع لـ«الأخبار». يصل طليع متأخراً. كان الإرهابيون يقفون أمام باب البيت، ويصرخون «الله أكبر»! لكنّ يوسف، الشاب العاجز جسدياً، في قلبه الكثير من الخير، ليدرك أن الواقفين أمام بيته أشرار. هم يقتلون باسم الله ويصرخون «الله أكبر»، ويوسف يردّ من الداخل «الله أكبر عليكم، الله أكبر عليكم». كان يوسف ينزف، ويستغيث بأمه: «يا أمي إجري كلها دم». يشتبك طليع مع الإرهابيين بمسدسه عن مسافة قريبة. يقتل واحداً ويقتله آخر. يستشهد يوسف أيضاً وتصاب أمه بجراح بالغة، في جسدها بالرصاص، وفي روحها بفقدان ولديها.
لا يختلف الحال في قرية الكسيب عن باقي القرى التي تعرّضت للهجوم. أمام البيت الصغير، يجلس الشيخ أبو مازن المتني، وعلى الكرسي القريب منه صورة ولده مازن، الذي استشهد أثناء مواجهته للمسلحين، قرب بئر «الدياثة» القريب، مع اثنين من أترابه. يشرح أبو مازن لـ«الأخبار» كيف منع ولده مع رفاقه دخول الإرهابيين إلى الكسيب. يقول إن ابنه مع مجموعة من أبناء البلدة، قرّروا الدفاع عن البلدة من خارجها قبل وصول الإرهابيين إليها، ونجحوا في ذلك، محبطين الهجوم.
أهالي الشهداء: فداءً لسوريا
لا يتأثر أهالي القرى الشرقية، أهل الشهداء وأصحاب الدّم، بكل التحريض الذي تعمل عليه ماكينة إعلامية كبيرة في السويداء وخارجها، لتحميل الجيش السوري مسؤولية ما حصل، والإشارة إلى أن الأمر كان مؤامرة دبّرتها الدولة السورية. بالنسبة إلى الشيخ أبو طليع أو الشيخ أبو مازن وولده الثاني، القرى الشرقية دفعت ضريبة مثل باقي السوريين في مواجهة الإرهاب. يقول أبو طليع لـ«الأخبار»، إن «أولادي استشهدوا دفاعاً عن سوريا. ونحن نقدّم الغالي والرخيص على مذبح الوطن الذي يقوده الرئيس بشار الأسد».
من القرى إلى تل العجيلات، لا يختلف المشهد. جنود الجيش هنا ومعهم أبناء القرية، يُعدّون أنفسهم لأي هجوم جديد، في انتظار صدور القرار بالبدء بعملية عسكرية لتطهير البادية من «داعش». يصادف وجود «الأخبار» مع سلسلة غارات نفّذها الطيران الحربي السوري على مواقع انتشار للإرهابيين في عمق البادية. هنا الجنود أكثر حماسة من الأهالي للاقتصاص من الإرهابيين. وجنود الفرقة 15، حالهم كحال بقية قطعات الجيش السوري، تضمّ جنوداً من دير الزور وإدلب وحلب والقامشلي ودرعا ودمشق والسويداء. محمد، جندي من القامشلي، يتناوب مع أحد أبناء البلدة من اللجان الشعبية ومقاتلين من «نسور الزوبعة»، مراقبة تحرّكات الإرهابيين عبر المناظير. يقول محمد: «أنا كردي، مستعد للموت في السويداء للدفاع عن سوريا وهؤلاء الناس الطيبين ضد هؤلاء الوحوش، ومثلي رفاقي أبناء حلب وإدلب».
من القرى الشرقية إلى مدينة السويداء، تبدو المدينة أهدأ من الأيام الماضية. لكنّ القلق لا يزال مسيطراً، ما يدفع شبّان المدينة والأحياء إلى المناوبة على حراسات ليلية ومساعدة الجيش والأجهزة الأمنية لضبط أي تحركّات مشبوهة.
فعاليات المدينة: لضبط فوضى السلاح والتنبّه للأخطار
على الرغم من الحماسة التي يبديها أهالي السويداء للدفاع عن المحافظة، إلّا أن انتشار السلاح العشوائي يهدّد بفوضى تزيد من فاتورة خسائر المحافظة. خلال الأيام الماضية، قُتل أربعة شبّان من طريق الخطأ في حوادث منفصلة سببها قلّة التنسيق بين الحرّاس واللجان الشعبية، والحماسة الزائدة عند البعض. يشرّح شيخ العقل يوسف جربوع ما حصل باختصار، مؤكّداً أن عصابات «داعش» سبق أن وجهت تهديدات للمحافظة، وهذا «أمر طبيعي بناءً على عقيدتها التكفيرية». ويضيف جربوع أن «ما حصل لن يدفع السويداء إلى أي خيار آخر غير التعاون مع الجيش والقوات المسلحة وأجهزة الدولة لضبط الأمن والأمان». ويقول الشيخ إن ما حصل كان المطلوب منه إحداث صدمة لأهالي السويداء تدفعهم إلى التمرّد على الدولة، و«أنا حذّرت سابقاً قبل سنوات وعبر الأخبار عن أن إسرائيل تريد إسرائيليات أخرى في محيطها لتبرّر وجودها، ونحن واعون لهذا الأمر والسويداء لن تكون سوى جزء من الجمهورية العربية السورية». بالنسبة إلى شيخ العقل أبو وائل الحنّاوي، فإن ما حصل «يثبت أن لا أمان للفكر التكفيري، وهذا الفكر لا يكفي الصراع معه عبر البنادق، بل أيضاً عبر العلم والمعرفة». ويقول إن أهالي السويداء «أناس مسالمون لا يعتدون على أحد، لكنّ هؤلاء الإرهابيين أجبرونا على حمل السلاح للدفاع عن بلادنا ووطنا وعرضنا». بالنسبة إلى الحناوي، «لا بديل أمام أهالي السويداء سوى الدولة السورية والجيش العربي السوري، مهما اشتدت المؤامرات».
تعزيزات جديدة للجيش
منذ اللحظات الأولى للهجوم على السويداء، سارع الجيش السوري إلى تعزيز القوات التي أرسلها إلى الريف الشرقي للمحافظة لطرد الإرهابيين، مكمّلاً انتشاراً واسعاً على طول خط الجبهة التي تزيد على مسافة 100 كلم من شمال المحافظة إلى جنوبها. وعلى مدى الأيام الماضية، استمر الجيش بنقل القوات المعزّزة بالآليات والمدرعات أولاً لتشكيل درع عن المحافظة، وثانياً لبدء التمهيد للعملية العسكرية التي قد تنطلق خلال أيام للقضاء على الإرهابيين نهائياً في البادية الشرقية. وفي ذات الوقت، عادت خطوط التفاوض مع الإرهابيين لإطلاق سراح النساء والأطفال المختطفين، خصوصاً مع انتهاء ملفّ حوض اليرموك، الذي يحاول الإرهابيون في البادية ربطه بملفّ المختطفين، في الوقت الذي تمكّن فيه الجيش من أسر أعدادٍ من الإرهابيين من منطقة الحوض. وتتكتّم المصادر الأمنية المعنية عن الإشارة إلى أي تفاصيل حول مسار المفاوضات، لكنّها تؤكّد أن العمل جارٍ على قدمٍ وساق لتحرير المختطفين، متوقّعة أن تظهر نتائج قريبة في الملفّ.