كانت كل المؤشرات توحي بأن سوريا طوت صفحة الحرب، وفتحت صفحة جديدة عزّز وجودها قرار جماعي بإعادة فتح السفارات، و خصوصا العربية منها. رفعت دول الخليج عنوان: عدم ترك الساحة السورية للإيرانيين والأتراك. وتقدمت خطوات نحو دمشق. لكن معوّقات برزت فجأة منعت المصالحة السعودية-السورية، رغم الدخان الأبيض الذي اعاد الإماراتيين الى الشام، ورفع التمثيل الدبلوماسي للأردنيين، وجعل البحرينيين يغازلون دمشق، والمصريين يتباهون بإستمرار التنسيق بين القاهرة وعاصمة الأمويين. كان مرتقبا عودة سوريا الى حضن الجامعة العربية، لكن ضغوطا أميركية حلّت دفعة واحدة اجهضت الانفتاح على سوريا، ومنعت اعادة العلاقات الدبلوماسية معها. لا يقتصر الأمر على تلك المؤشرات. بل يتعداها الى وجود قرار من "الدولة الأميركية العميقة" بإستكمال الحرب على سوريا، واستهداف رأس النظام، رئيسها بشار الأسد. عنوان الحرب إقتصادي، لكن الهدف هو تجويف النظام، لفرض ضعفه، ورضوخه، أو تحضير الأرضية لهزيمته في الانتخابات الرئاسية.
ما لم تستطع الحرب العسكرية فعله، ستتكفّل به الحرب الإقتصادية، من خلال اثارة النقمة الشعبية، التي بدأت تئن جرّاء فقدان المحروقات للتدفئة، ومواد اولية أخرى، بعد أن كانت المعارك الممنهجة دمّرت المنشآت النفطية في عدد من المناطق، وحرمت سوريا من عنصر الاكتفاء الذاتي في المواد النفطية والزراعات الاساسية. وبحسب المعلومات، فإن ثلاث نواقل نفط وغاز تنتظر حول قبرص منذ اشهر، بعد منعها من دخول المياه الاقليمية السورية، وعندما حاول السوريون نقل الغاز ببواخر صغيرة، تعرضوا لتحذيرات أميركية بضربها، كما حصل بإغراق ناقلتي غاز في البحر الاسود لتانزانيا وتركيا على حدود روسيا. لم تكتف واشنطن بهذا التدبير، بل عمدت الى وضع اسماء المصدّرين والناقلين لمعاقبتهم. كما ان الولايات المتحدة الأميركية اوحت للدول التي تستورد صناعات ومنتجات زراعية من سوريا بوقف الاستيراد منها، تحت طائلة العقوبات الاقتصادية القاسية. وعمدت بالوقت ذاته الى اقرار الكونغرس قانون "قيصر" الذي يعاقب كل من يتعامل مع السوريين اقتصادياً وسياسيا. بدأ السوريون يعانون من بوادر الازمة الاقتصادية، ويصبّون غضبهم على الحكومة، ويعتبرونها المسؤولة عن التقصير. وبحسب الخطة المعدّة، فإن الهدف هو "طحن النظام شعبياً"، للوصول الى مرحلة يتدرج فيها مناصرو الاسد من دعمه الى النقمة عليه. لماذا الآن؟ يقول مطّلعون ان الرئيس السوري لم يرضخ للضغوطات السياسية ولا العسكرية الغربية، وتحديدا الاميركية.
وبعد فشل الخيار العسكري ضد سوريا، نتيجة الدعم الروسي والايراني لدمشق، واقدام الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اتخاذ قرار سحب الجيش الأميركي من سوريا، من دون علم "الدولة العميقة"، لجأت واشنطن الى اعتماد خيار الحرب الاقتصادية التي تشنها على ايران، وروسيا، ودول اخرى. الفارق بين تلك الدول، ان روسيا لديها قدرات هائلة تمنع تأثير العقوبات عليها، بينما تقاوم الجمهورية الاسلامية الحصار بصعوبة، لكن سوريا الجريحة بعد استنزاف مستمر طالها منذ ثماني سنوات، ستصاب بآلام كبيرة، يصعب تخطيها من دون مواجهة شعبية وتضامن وطني ودعم حلفائها.
ويشير المطّلعون انفسهم الى "تقصير صيني" تجاه دمشق، وتجميد شركات صينية عدة مشاريعها التي كانت تنوي تنفيذها على الأراضي السورية، خوفا من العقوبات الأميركية. ويعدد متابعون سيناريوهات الخطة لتحقيق أحدها: اولا، تجويف النظام السوري، تمهيدا للقضاء عليه، من خلال تراجع شعبيته جرّاء الأزمة الاقتصادية. ثانيا، ايصال الاسد منهكاً شعبياً الى انتخابات رئاسية تبعده عن المشهد السياسي. ثالثا، فرض تأليف حكومة جديدة الآن بإشراك معارضين، تمهيدا لمرحلة مقبلة. رابعا"، فرض خيارات سياسية على دمشق، للابتعاد عن ايران، وتلبية الشروط الاسرائيلية جنوبا، وتفادي السيناريوهات السابقة. توحي الاجواء في سوريا، ان النقمة الشعبية قائمة الآن على الحكومة، من خلال الانتقاد الواسع لأدائها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هدف الخطة هو الأسد. فهل يفوّت الشعب السوري الفرصة على واشنطن؟ أم أن البعد الاقتصادي هو اصعب من الحرب العسكرية، ويحقق اهدافه بتسلل سريع الى كل عائلة ومنزل؟ تجري تلك الحرب الآن، بموازاة ضغوط امنية من خلال تفجيرات ارهابية عادت تطل من جديد، وتؤدي بدورها الى زعزعة الثقة بالدولة.