دخل لبنان حاليًا مرحلة حسّاسة وصعبة تهدف إلى إقرار ميزانيّة مُتوازنة، الأمر الذي يستوجب إجراءات تقشّفية قاسية، لا يُمكن لأي جهة معنيّة بها أن تُوافق عليها. وفي الوقت الذي من المُتوقّع أن تتصاعد فيه حالات الإعتراض الشعبيّ، وأن تتوسّع تدريجًا في الأيّام والأسابيع المُقبلة، توجد نظريّة بعيدة عن الإعلام تتحدّث عن حتميّة خفض الرواتب، إن ليس بشكل مباشر عبر إقتطاع جزء مئويّ منها، فبشكل غير مُباشر عبر تضخّم مالي سيُؤدّي حتمًا إلى تآكل القدرة الشرائيّة لنفس الرواتب! ماذا يعني ذلك؟.
بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ العجز في المُوازنة اللبنانيّة منذ سنوات طويلة يعود إلى أسباب عدّة مُتداخلة، تشمل خُصوصًا الأموال الطائلة التي تتطلّبها خدمة الدين العام، أي الأموال التي تُدفع كفوائد من الواجب تسديدها وتعود إلى المبالغ الضخمة التي كانت الدولة قد استدانتها في الماضي، وكذلك الأموال التي تُدفع لسداد العجز في قطاع الكهرباء. وفي هذا السياق، لا بُد من التذكير أنّ نحو ثلث مُوازنة الدولة يذهب لتغطية فوائد الدين العام، ونحو ثلث ثان يذهب لتغطية العجز في قطاع الكهرباء، بينما يبقى ثلث واحد لتغطية مصاريف الدولة ووزاراتها ومؤسّساتها، وبطبيعة الحال أجور ورواتب كل العاملين والمتقاعدين المحسوبين على القطاع العام-من مدنيّين وعسكريّين، والذين يبلغ عددهم نحو ثلاثمئة ألف شخص.
وبالتالي، إنّ توقّف لبنان عن تسديد إلتزاماته المالية تجاه الجهات الدائنة غير وارد، ما يعني أنّ تحقيق أيّ وفر في هذا الصدد غير مُمكن في المدى المنظور. في المُقابل، إنّ خفض العجز الخاص بقطاع الكهرباء مُمكن بشرط تضامن مُختلف القوى على تنفيذ الخطة الإصلاحيّة، لكنّ الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، وبالتالي لا مجال لإحداث فوارق مُهمةّ في ميزانيّة هذا العام. من هنا، جرى التركيز على مُعالجة العجز الحاصل في مصاريف الدولة–إذا جاز التعبير، خاصة في ضوء أعباء إقرار سلسلة الرتب والرواتب، بشكل مُتسرّع وغير مدروس، وذلك لغايات إنتخابيّة ومن دون توفير الأموال اللازمة لتغطية نفقاتها. والأكيد أنّ العودة عن هذا الخطأ الذي تسبّب بهُوّة كبيرة بين قيمة رواتب العاملين والمُوظّفين (والمُتقاعدين أيضًا) في القطاع الرسمي من مدنيّين وعسكريّين من جهة، وقيمة رواتب العاملين في القطاع الخاص من جهة أخرى، غير مُمكن على الإطلاق.
من هنا، إنّ أقصى ما يجري درسه من خيارات حاليًا، يتمثّل في القيام بخفض جزئي مَحدود للرواتب والأجور، وبخفض مَحدود أيضًا لبعض المُساعدات الإجتماعيّة، مثل المُساعدات المدرسيّة والمنح التعليميّة، وبدلات السفر، والساعات الإضافيّة، إلخ. إلى جانب تعديل قوانين الرواتب التقاعديّة، لا سيّما لجهة إستمرار إستفادة الزوجة (أو الإبنة غير المتزوّجة) من راتب زوجها المُوظّف (أو والدها) بعد وفاته. وفي السياق عينه، يجري البحث في إمكان إلغاء التدبير "رقم 3" الخاص بأفراد المؤسّسة العسكريّة، أو على الأقلّ حصره بالوحدات الميدانيّة المُقاتلة فقط، وكذلك بالتخلّي كليًا أو جزئيًا عن تخصيص الضُبّاط بسيارات للتنقّل وبقسائم محروقات، إلخ...
لكنّ وبمُجرّد تسرّب بعض هذه الإجراءات إلى الإعلام، وعلى الرغم من أنّها لا تزال بطور الدرس والتداول من دون إتخاذ أي قرار تنفيذي بشأنها، تفجّر الغضب الشعبي، وبدأت التحرّكات والإعتصامات والإعتراضات تتوالى، في ظلّ توقّعات بأن تكبر هذه الموجة سريعًا ككرة ثلج، الأمر الذي قد يدفع المَعنيّين إلى إعادة حساباتهم، وإلى التراجع عن إتخاذ أيّ قرار قاس يطال المُواطنين العاديّين، ما لم يتمّ تأمين مظلّة سياسيّة واسعة جدًا له، أي مُوافقة علنيّة من مُختلف القوى السياسيّة المُشاركة في الحُكم، تحت عنوان: قرارات قاسية لتجنّب الأسوأ، وتفاديًا للإنهيار الشامل!.
والأخطر من كل ما سبق، انّ بعض الأوساط الإقتصاديّة المُطلعة أكّدت حتميّة إنخفاض الرواتب في المُستقبل غير البعيد، إن لم يكن بشكل مُباشر عبر قرارات غير شعبيّة من جانب السُلطة السياسيّة، فبشكل غير مُباشر، عن طريق التضخّم المالي، وإرتفاع أسعار السلع والخدمات، وتآكل القُدرة الشرائيّة...