في الأسبوع الأوّل من تشرين الأوّل الحالي، كان التداول بسعر صرف الدولار في السوق السوداء يبلغ تقريبًا 8600 ليرة لبنانيّة للبيع و8800 ليرة لبنانيّة للشراء، في ظلّ إشاعات عن أنّ الإرتفاع الذي كان قد لامس في الماضي القريب عتبة العشرة آلاف ليرة لبنانيّة، سيستمرّ في الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة ليبلغ أرقامًا صادمة عند رفع الدعم عن بعض المواد الأساسيّة! لكن عشيّة شيوع أخبار عن إتجاه لتكليف رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري بتشكيل حُكومة جديدة، بدأ سعر الصرف رحلة مُعاكسة، ثم راحَينخفض بسرعة خلال الأيّام القليلة الماضية بعد إتمام مرحلة التكليف بنجاح، إلى أن بلغ أكثر بقليل من 6000 ليرة لبنانية للدولار الواحد خلال عطلة نهاية الأسبوع، قبل أن يعود ويتخبّط صُعودًا وهُبوطًا! والسؤال الذي يُراود الرأي العام اللبناني، هو: هل سينخفض الدولار أكثر... أم سيرتفع مُجدّدًا؟.
لمعرفة إتجاه الدولار الفعلي في المرحلة المُقبلة، يجب بداية أن نُحدّد أسباب الإنخفاض الذي حصل. وفي هذا السياق، يُجمع الخُبراء في الشؤون الإقتصاديّة والماليّة على أنّ ما حدث ليس مبنيًا على واقع إقتصادي أو مالي مُستجدّ، ولا على أسس علميّة يُمكن البناء عليها، وهم يَعزون ما حدث إلى الأسباب التالية:
أوّلاً:إنّ حجم سوق التداول بالدولار لدى الصيارفة في لبنان صغير ومَحدود، وهو يتراوح ما بين ثلاثة ملايين دولار في الأيّام العاديّة، وُصولاً إلى ثمانية ملايين دولار تقريبًا في الأيّام التي تشهد تقلّبات حادة، علمًا أنّ حجم المبالغ النقديّة بالدولار التي يضخّها مصرف لبنان لدى الصيارفة المُرخّصين والمُصنّفين ضُمن الفئة "ألف" بهدف تلبية حاجات السُوق، كانت قد تراجعت خلال الأشهر القليلة الماضية من 30 مليون دولار إلى 7 ملايين دولار فقط أسبوعيًا. وبالتالي، إنّ أيّ حركة بيع أو شراء ناشطة نسبيًا-ولوّ صغيرةلدى أي صرّاف، وفق ما يُعرف بتداولات السوق السوداء، تتسبّب بتغييرات واضحة في سعر الصرف، وهذا ما حصل خلال الأيّام القليلة الماضية.
ثانيًا: تأثّر قسم كبير من الشعب اللبناني بتصاريح إعلامية من أكثر من مصدر–بعضها مُتعمّد وبخلفيّات سياسيّة وليس إقتصاديّة، توَقّعت تراجع سعر صرف الدولار إلى حُدود 6000 ليرة لبنانية في حال تكليف رئيس "تيّار المُستقبل" بتشكيل الحُكومة المُقبلة، وبُوصُوله إلى حدود 5000 ليرة لبنانية فقط للدولار الواحد عند تشكيل الحُكومة ونيلها ثقة مجلس النوّاب. وهذا ما دفع كثير من اللبنانيّين الذين يملكون دولارات مُخزّنة في منازلهم، للمُسارعة إلى صرفها، خشية أن تفقد المزيد من قيمتها، وبالتالي زادت عمليّات بيع الدولار من قبل العديد من الجهات، عن عمليّات شرائه من قبل بعض التُجّار وبعض الأشخاص المُضطرّين للسفر أو لتحويل الأموال لطالب في الخارج، إلخ، بحيث فاق عرض الدولار الطلب عليه، ما أسفر عن إنخفاض سعره وفق المُعادلة الإقتصاديّة المَعروفة والتي تؤكّد أنّ سعر أيّ سلعة يتأثّر بحجم العرض والطلب عليها.
ثالثًا: طغَى الطابع السياسي على جزء من الحركة الماليّة الناشطة في سوق الصيارفة في الأيّام القليلة الماضية، حيث تعمّدت أكثر من جهة سياسيّة وإقتصاديّة،تقف وراء مُبادرة تكليف رئيس "تيّار المُستقبل" برئاسة الحُكومة المُقبلة، بيع كميّات كبيرة من الدولارات لغايات سياسيّة تهدف إلى إنجاح هذه المُبادرة.
رابعًا: دخل صيارفة ورجال أعمال كبار ومُضاربون في السُوق المالي على الخط، فساهموا بضخّ كميّات كبيرة من العملة الأميركيّة في السوق لخفض سعر الدولار، قبل أن يُعاودواالشراء بسعر منخفض، وذلك بهدف التمكّن من تحقيق أرباح ماليّة طائلة خلال فترة زمنيّة قياسيّة.
وإنطلاقًا ممّا سبق، يُمكن القول إنّ سعر صرف الدولار سيبقى مُتقلّبًا خلال الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة، بحيث سيتأثّر سلبًا وإيجابًا بمُجريات وبتطورّات مسار تشكيل الحُكومة من جهة، حيث سيرتفع كلّما كانت أخبار التأليف غير مُشجّعة، وسينخفض كلّما كانت أخبار التأليف مُشجّعة. كما سيتأثّر سعر الصرف من جهة أخرى بالمُضاربات الحاصلة، حيث ستعمد بعض الجهات لضخّ الدولارات لخفض السعر لغايات سياسيّة، بينما ستعمد جهات أخرى لإستغلال المَوضوع للشراء على سعر مُنخفض، الأمر الذي سيُعيد إرتفاعه! وبالتأكيد إنّ النجاح في تشكيل حُكومة جديدة سيُؤدّي حُكمًا إلى صَدمة إيجابيّة تُساهم في خفض سعر الصرف، بناء على عوامل نفسيّة وليس على أسُسٍ إقتصاديّة. إشارة إلى أنّ إنخفاض الدولار بناء على وقائع علميّة وثابتة، يتطلّب ليس تشكيل حُكومة تحظى بدعم سياسي واسع فحسب، بل البدء جديًا بتنفيذ إجراءات إقتصاديّة وماليّة وضرائبيّة إصلاحيّة مَلموسة وواضحة أمام الرأي العام، وكذلك نجاح المُفاوضات مع صُندوق النقد الدَولي للبدء بتلقّي أموال الدعم والمُساعدات الماليّة وقُروض الإستدانة من المُجتمع الدَولي ومن صُندوق النقد، إضافة إلى إطلاق مسار إستعادة الثقة عبر تثبيت أجواء سياسيّة إيجابيّة ومُستقرّة في البلاد، وعبر إعادة هيكلة القطاع المَصرفي والتعهّد قانونًا بحفظ أموال المُودعين كاملة، إلخ.
في الخُلاصة، لا ثبات لسعر صرف الدولار في المرحلة الراهنة، حيث ستبقى التقلّبات سيّدة المَوقف، تبعًا للتطوّرات السياسيّة التي ستحصل خلال الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة، خاصة على مسار تأليف الحُكومة، وكذلك تبعًا للتطوّرات الإقتصاديّة والماليّة التي ستحصل خلال الأشهر القليلة المُقبلة، لجهة حجم المُساعدات التي ستصلنا وإطلاق مسَار الإصلاحات من عدمه وطبيعة هذه الإصلاحات، إلخ. وبالتالي المَطلوب من الناس حاليًا عدم المُساهمة في زيادة حدّة التقلّبات بسعر الصرف، والإكتفاء بشراء الدولار أو ببيعه وفقًا للحاجات الشخصيّة العاديّة، وليس لأهداف لها علاقة بالمُضاربات الماليّة.