سِرُّ لبنانَ أنَّهُ ما آمَنَ بالمَوتِ. وَلا بِدَيمومَتِهِ.
حينَ كُلُّ مَن حَولهُ، إنغَلَقَ رَهينَةَ خِطَطِ "المَصيرِ"، بِصَياغَةٍ بالِغَةِ السَلبِيَّةِ وَبَعيدَةِ عَنِ الكُلِيَّةِ الإنسانِيَّةِ التَوَّاقَةِ الى الأُلوهَةِ في الحاضِرِ والأوَاتيَ، خَطَّ لبنانُ قوَّةَ الحاضِرِ إنطِلاقاً مِنَ الأبَدِيَّةِ وإليَها. هي القُوَّةُ المُبدِعَةُ الخَلقَ الجَديدَ مِن رَحَمِ المَوتِ، في حاضِرٍ مُعاصِرٍ لِلأواتيَ كُلِّها. بِذَلِكَ هي فاعِلَةٌ في كُلِّ زَمانٍ، وَكُلِّ الزَمَنِ.
هذا التَلاقيُ بَينَ الأُلوهَةِ الخالِدَةِ والإنسانِيَّةِ الزَمَنِيَّةِ، خَطَّها لبنانُ جَذباً لِلوجودِ، أيّ لِلخَليقَةِ التي فيها لَقِيَتِ الأُلوهَةُ مُحاوِرُها الذي شاطَرَتهُ زَمَنِيَّتَهُ: الإنسانُ. مَعَهُ، غَدَتِ الأُلوهَةُ زَمَنَاً بَل أزمِنَةُ، وَهيَ في ذاتِها أبَدِيَّةً. بِمِعنىً آخَرَ، مَعَ لبنانَ وَفيهِ وَبِهِ، الأُلوهَةُ ما بَقيَت مُنفَصِلَةً، فَوقَ الزَمانِ والمَكانِ، بَل غَدَت مَلموسَةً، في زَمَنٍ هي وَسَطَهُ. هو زَمَنُ لبنانَ. وَهيَ تَجَسَّدَت، بِهِ وَفيهِ وَمَعَهُ، حَدَثَاً. بَل حَقيقَةً تُحَدِّدُ بِعُمُقٍ كَيانَ الإنسانِ.
قُلّ: مِن لبنانَ، الأُلوهَةُ، التي لَها كُلُّ الأزمِنَةِ، ما عادَت أسيرَةَ خُلودِها. بَل تَجَلَّت عَرشَ النِعمَةِ التي إلَيها يَتَقَدَّمُ الخَلقُ بِثَباتٍ، وَقَد تَحَقَّقَ بِها.
هَذا اليَقينُ، الذي بِهِ حَقيقَةُ الأُلوهَةِ وَحَقيقَةُ الإنسانِ لا تَنفَصِلُ إحداها عَنِ الأُخرى حَدَّ النُكرانِ، وَلا تَتَطاحَنُ إحداها بالأُخرى حَدَّ التَنافيَ، رَفَضَهُ كُلُّ مَن حَولَ لبنانَ. هَؤلاءِ الَذين سَرَقوا نُبوغَهُ وَإلَيهِمِ نَسَبوهُ، هالَهُمُ أن يُقَرِّبَ لبنانُ الأُلوهَةَ مِنَ الخَليقَةِ لِكَيما بِها تَتَحَرَّرُ مِن وَطأةِ البَلاءِ: بَنو إسرائِيلَ إحتَكَروا اللهَ وَبِهِ ألصَقوا حِرَفِيَّاتِ غِيِّهِمِ، وَما إكتَفوا لِتَغطِيَةِ عَوراتِهِمِ بِسَرِقَةِ أناشيدَ حُبِّ إيلَ-الإلَهِ الآبِ في الثالوثِيَّةِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ الى الإلَهَةِ-الأُمِّ وَتَسمِيَتِها "نَشيدَ الأنشادِ"، وَناياتِ طورَ البيبلوسِيَّ المُثَلَّثِ العَظَمَةِ لِلأُلوهَةِ وَتَسمِيَتِها "مَزاميرَ"... وَغَيرِها. فَراعِنَةُ مِصرَ نَسبوا لِذوَاتِهِمِ فِكرَ بيبلوسَ، عاصِمَةِ لبنانَ الروحِيَّةِ، وَفَرعَنوا أساطيرَهُ. إثينا إكتَفَت بِفَلسَفَةِ أبناءِ صورَ وَصَيدونَ، هَليَنَتها وَبِها بَسَطَت نُفوذَها بَعدَما سَجَنَت آلِهَتَها التي على صورَةِ شَهَواتِ زَوانيها فَوقَ جَبَلٍ سَيَّجَتهُ بِجُدرَانَ. أمَّا روما فَألَّهَت كُلَّ شَيءٍ لِتَبقى أسيرَةَ بَطشِ الظُلُماتِ.
جَميعُهُمُ أغَلُّوا أنفُسَهُمُ في أحادِيَّاتِ النِهاياتِ: نِهاياتِ الإنسانِ، وَنِهاياتِ الأُلوهَةِ.
جَميعُهُمُ نَهَبوا تَناسُقاتِ لبنانَ... إلَّا واحِدَةً: القِيَامَةُ. قِيَامَةُ الأُلوهَةِ لِقَيَامَةِ الإنسانِ... لِعَدَمِ فَصلِ السَماءِ عَنِ الأرضِ. الفَوقُ عَنِ التَحتِ.
العَهدُ الجَديدُ
ذاكَ العَهدُ الجَديدُ، سَطَّرَهُ لبنانُ بأُسطورَةِ طائِرِ الفينيقِ، التي غَدَت كُنيَتَهُ، وَبَقيَت الى اليَومِ خاصِيَّتَهُ. هو رَمزُ الأُلوهَةِ الزاهِيَةِ بِجَمالِهِا الوَحيدِ، وَقَد شَهِدَت آلامَ الخَليقَةِ. وَمِنَ سَمائِهِ راحَ يَنحَدِرُ مَرَّةً كُلَّ كَونِيَّةِ زَمَنٍ لِيَتَّحِدَ بآلامِها، فَيَرتَقِيَ الى أعلى غُصنِ أرزٍ مُنشِداً تَرانيمَ المُواساةِ وَمَدائِحَ الخَلقِ حَتَّى يَلتَهِبَ بأشِعَّةِ الشَمسِ فَيَنثُرَ على كُلِيَّةِ الزَمَنِ رائِحَةَ عَنبَرٍ، وَيَموتَ... وَفجرَ اليَومِ الثالِثِ، مِن رَمادِهِ َينبَعِثُ جَديداً وَقَد جَدَّدَ الخَليقَةَ كُلَّها.
هي الأُلوهَةُ تخُلي ذاتَها، وَتَطأُ المَوتَ بالمَوتِ لِتَغلِبَ الظُلُماتِ. وَها الجَسَدُ الأرضِيُّ-الماديُّ (sarx) الذي بِهِ إنزَرَعَت، إرتَفَعَ مُشِعَّاً بالمَجدِ وَمُمتَلِئاً قُوَّة (pneumatikon) بِفِعلِ القيامَةِ. بِها الأرضُ غَدَت سَماوِيَّةً. لا سُلطانَ بَعدُ لِلفَناءِ عَلَيها.
هو لبنانُ القِيامِيُّ. الحَيُّ أبَداً. رَذَلَهُ الجَميعُ لأَنَّهَ يَفضَحُ ضَلالَهُمُ.
المَسيحُ، بِكرُ الخَلائِقُ، إبنُ اللهِ الحَيِّ، "الفينيقُ" على ما كَرَّسَهُ البابا القِدِّيسُ إكليمَنضُسُ في رِسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوسَ، سَيُحَقِّقُهُ بِدَمِهِ، بَعدَما حَكَمَ عَلَيهِ الجَميعُ أنفُسُهُمُ بالمَوتِ...
...لَكِنَّ الأساسَ المَرذولَ "صارَ رأسَ الزاوِيَةِ".