إنّها الحرب. لم يعد بالإمكان توصيف التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق ضدّ لبنان، منذ حرب تموز 2006، بعباراتٍ أخرى، فما يجري منذ يوم الإثنين ليس عدوانًا بأتمّ معنى الكلمة فحسب، ولكنه أيضًا يتجاوز كلّ قواعد الاشتباك، المُعلَنة منها والمُضمَرة، كما يكسر كلّ الخطوط الحمراء، في ظلّ غارات جوية مكثّفة، يصحّ وصفها بـ"العشوائية"، وقد أسفرت عن فاتورة بشرية "ثقيلة" تخطّت في يومين فقط نصف إجماليّ ضحايا حرب تموز 2006.
صحيح أنّ الإسرائيليين يزعمون أنّ ضرباتهم "محدّدة الأهداف"، وقد امتدّت من أقصى الجنوب اللبناني، إلى عمق البقاع، مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت، كما شملت بعض المناطق خارج نطاق التوقعات، كما حصل في استهداف بلدة المعيصرة في كسروان مثلاً، إلا أنّ التدقيق في طبيعة هذه الأهداف يدحض "الدقة" عنها، ولا سيما مع إعلان وزارة الصحة أنّ معظم الشهداء والجرحى هم من المدنيين، ولا سيما من النساء والأطفال.
وإذا كان الإسرائيليون يخوضون هذه الحرب تحت عنوان إعادة المستوطنين في الشمال إلى بيوتهم بأمان، بعدما هُجّروا منها قسرًا منذ بدء الاشتباكات مع "حزب الله" في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" قبل نحو عام، فإنّ طريقة تحقيقهم هذا الهدف تثير الكثير من التساؤلات، خصوصًا أنّ العدوان أدى أيضًا إلى توسيع مدى عمليات الحزب، الذي كان قد حذّر قبيل التصعيد من أنّ أيّ حرب ستزيد نسبة التهجير ولن تقلّصها.
وإلى جانب الضربات العسكرية "العشوائية"، يخوض الإسرائيليون حربًا "نفسية" أيضًا ضدّ لبنان، وقد بدأت منذ الإثنين عبر الرسائل الهاتفية التحذيرية، وتحديد "مهل للإخلاء"، فضلاً عن الطلب "الملغوم" بالابتعاد عن "حزب الله"، وكلّ ذلك في سياق "بروباغندا" تهدف إلى الضغط على الحزب، فما هي الأهداف المُضمَرة فعليًا من العدوان، وهل ينجح رئيس الوزراء الإسرائيلي في تحقيقها، سواء على أرض الميدان، أو خارجها؟.
بالحديث أولاً عن الأهداف الإسرائيلية المتوخّاة من التصعيد الأعنف ضدّ لبنان منذ حرب تموز 2006، يقول العارفون إنّها تتفرّع بمجملها من الهدف الرئيس المُعلَن وهو إعادة المستوطنين إلى الشمال، حيث تشمل إضعاف الحزب وشلّ قدراته، لمنعه من مواصلة شنّ الهجمات على شمال إسرائيل، ولكنها تشمل أيضًا الضغط على الحزب من خلال "محاصرة" المدنيين تحديدًا في بيئته الحاضنة، وتعريضهم للخطر المباشر.
في هذا السياق، يشرح العارفون أنّ الجانب الإسرائيلي يسعى من خلال هجماته الموسّعة والمكثّفة، إلى إضعاف "حزب الله" وشلّ قدراته العسكرية، في استكمالٍ لما كان قد بدأه الأسبوع الماضي في هذا السياق، بدءًا من مجزرتي الثلاثاء والأربعاء اللتين ضربتا الحزب في الصميم، وصولاً إلى مجزرة الضاحية الجنوبية التي استهدف فيها "نخبة النخبة" في صفوف القيادات العسكرية للحزب، من خلال ضرب اجتماع "وحدة الرضوان".
وبالتوازي مع هذه الضربات، كان سلاح الجو الإسرائيلي يشنّ أيضًا موجات من الغارات العنيفة استهدفت أراضي ومناطق حرجية، ويحوّلها إلى منطقة "محروقة وغير مأهولة"، قبل أن يباشر صباح الإثنين غارات جوية عنيفة، قال إنّها "مركّزة" على المنازل التي زعم أنها تحوي أسلحة لـ"حزب الله"، ولو أنّ الوقائع على الأرض أثبتت أنّها كانت "عشوائية"، وأنّ الهدف منها كان ضرب الجنوب "كيفما كان"، في استنساخ نسبيّ لنموذج غزة.
بالتوازي مع ذلك، استمرّت سياسة الاغتيالات المحدّدة في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي تعرّضت للعديد من الضربات في الأيام الأخيرة، ولو أنّ إحداها لم تنجح بحسب ما أعلن "حزب الله"، وهي سياسة تندرج أيضًا في سياق ضرب الحزب، وشلّ حركته، وتعطيل قدرته، خصوصًا في ظلّ انطباع بأنّ القيادات العسكرية التي تعرّضت للاغتيال شكّلت خسارة كبيرة للحزب، ولو ألمح في أكثر من مناسبة، إلى القدرة على "تعويضها"، بالهيكلية العسكرية.
وفي حين يرى كثيرون أنّ هذه الأهداف الإسرائيلية لا يمكن أن تتحقّق بالتكتيك الإسرائيلي الحالي، ولو كان مؤذيًا ومؤلمًا، باعتبار أنّه لا يؤدي سوى إلى إطالة أمد الصراع، وتوسيع مدى عمليات "حزب الله" التي وصلت إلى ضواحي تل أبيب للمرة الأولى، فإنّ هناك من يحذر من أساليب أخرى يعتمدها الإسرائيلي في سياق حربه النفسية أيضًا، وتشمل "محاولات للإيقاع" بين اللبنانيين، لضرب المشهد التضامني الذي ظهر منذ الأسبوع الماضي.
في هذا السياق، يمكن التوقف عند أساليب "الدعاية" التي لجأت إليها إسرائيل على امتداد الأيام الماضية، والتي اختصرها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتكراره في أكثر من مناسبة، أنّ الحرب هي ضدّ "حزب الله"، وليست ضدّ الشعب اللبناني، وهو ما برز أيضًا في التحذيرات التي وجّهها الجيش الإسرائيلي، حين طلب من الناس مغادرة الأماكن التي تحوي سلاحًا لـ"حزب الله"، أو يتواجد فيها عناصره.
يعلم الإسرائيليون جيّدًا أنّ مثل هذا الكلام لا يخدم سوى "البروباغندا" التي يقومون بها، إذ إنّ القاصي والداني يدرك الطابع "السرّي" لعمل "حزب الله"، كما يدرك أنّ الحزب هو في النهاية من صلب المجتمع اللبناني، وبالتالي فإنّ من الصعب "الابتعاد عنه" بكلّ بساطة، ولو أنّ هناك من يفهم هذا التكتيك على أنه محاولة للإيقاع بين اللبنانيين، في مواجهة مشهد التضامن البديهي والطبيعي منذ أول أيام العدوان، بمعزل عن كل الخلافات.
يقول العارفون إنّ هذا الأسلوب ليس بجديد على الإسرائيليين، فقد سبق أن اعتمدوه في حرب تموز 2006 أيضًا، حيث يلاحظ من يعود إلى الأرشيف أنّ الحديث الإسرائيلي تركّز منذ الساعات الأولى على شلّ قدرات الحزب ومنعه من مواصلة هجماته، لكنّ إطلاق الرشقات الصاروخية استمرّ على مدى 33 يومًا من الحرب، التي لم تنتهِ إلا بمفاوضات غير مباشرة أدّت إلى توقف الأعمال العسكرية من الجانبين بموجب القرار 1701.
استنادًا إلى ما تقدّم، يقول العارفون إنّ السيناريو نفسه يتكرّر مرّة أخرى، فتوسيع الغارات وتكثيفها كما هو حاصل حاليًا لن يكون كافيًا لإنهاء الحرب، ولا حتى لجوء الإسرائيليين إلى عملية برية كما يهدّدون، لأنّ الرهان على أيّ تراجع من قبل الحزب في ظلّ الظروف الحالية يبدو صعبًا، طالما أنّ الأخير يدرك أن أيّ "خضوع" من جانبه سيشكّل "هزيمة" في كلّ المقاييس، وهو ما لا يبدو واردًا بالنسبة إليه بأيّ شكل من الأشكال.
في النتيجة، الثابت أنّ "بنك الأهداف" الإسرائيلي من عدوانه على لبنان، كما حربه على غزة قبل ذلك، يتناقض مع ما يُعلنه، سواء لجهة الأشخاص الذين يستهدفهم، وقد تبيّن أنّ بينهم الكثير من النساء والأطفال، أو حتى لجهة ما يتوخّى تحقيقه من الحرب، وهو إخضاع "حزب الله" بصورة أو بأخرى، عبر الضغط عليه بكلّ السبل المُتاحة، عسكريًا ونفسيًا، أمرٌ يؤكد العارفون بالحزب أنّه مخطّط سيجهضه بقدرته على الصمود.