منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، بصيغته الأكثر همجية قبل نحو شهر، تتلاحق الضربات العنيفة ضدّ لبنان بصورة عامة، و"حزب الله" بصورة خاصة، بوتيرة لم يكن أقصى المتشائمين يتوقّعها، بدءًا من مجزرتي أجهزة الاتصال غير المسبوقتَين في التاريخ الحديث، وصولاً إلى عمليات اغتيال كبار قادة الحزب وقياديّيه، بما في ذلك أمينه العام السيد حسن نصر الله، مرورًا بالاستهدافات المتكرّرة للمدنيين في كلّ المناطق، بما في ذلك العاصمة بيروت.
في مواجهة كلّ هذه الضربات، اعتمد "حزب الله" مسارًا تصاعديًا بطيئًا في وتيرة عملياته، التي أبقاها للوهلة الأولى ضمن قواعد الاشتباك، وفي خانة "دعم الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناد مقاومته"، قبل أن يضيف إليها مبدأ "الدفاع عن لبنان وشعبه"، إلى أن أطلق في الأيام الأخيرة، وخصوصًا بعد اغتيال السيد نصر الله، ما وصفها بـ"سلسلة عمليات خيبر"، التي تأتي ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية، وبنداء "لبّيك يا نصر الله"، وفق ما يذكر في بياناته.
ولعلّ "ذروة" هذه العمليات سُجّلت ليل الأحد، عبر العملية المعقّدة والمركّبة التي استهدف الحزب من خلالها معسكر تدريب للواء غولاني في بنيامينا جنوب حيفا، عبر إطلاق سرب من المسيّرات الانقضاضية باتجاهه، وقد نجحت بالفعل في اختراق منظومة الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ليسفر الهجوم عن العدد الأكبر من القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي، منذ السابع من تشرين الأول 2023، بحسب ما سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشره.
وفيما وضع الحزب هذه العملية في خانة الرد على المجزرتين الإسرائيليتين الأخيرتين في منطقتي النويري والبسطة، أكد أنّ المقاومة ستبقى حاضرة وجاهزة للدفاع عن البلد، "ولن تتوانى عن القيام بواجبها في ردع العدو"، ما فُسّر ضمنًا على أنّه محاولة لإحياء معادلات الردع التي سبق أن حيّدت العاصمة بيروت من الاعتداءات الإسرائيلية في حرب تموز 2006، فهل يعيد الهجوم الأخير خلط الأوراق، بما يسمح باستعادة المعركة لتوازن فقدته لأسابيع خلت؟!.
صحيح أنّ القراءات لهجوم بنيامينا جنوب حيفا تتفاوت، إلا أنّ كلّ المؤشّرات تؤكد أنّه فعلاً الهجوم النوعي "الأعنف" في المسار الذي اعتمده "حزب الله" منذ فتح جبهة الإسناد قبل أكثر من عام، بدليل نوعيّة الاستهداف المركّب والمدروس، فضلاً عن حجم الإصابات الهائل، وهو ما يعزّز الاعتقاد بأنّ مثل هذا الهجوم يمكن أن يشكّل "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، ستتغيّر معها الكثير من قواعد الاشتباك، التي بقي الحزب يلتزم بها، رغم كسر إسرائيل لكلّ الخطوط الحمر.
يتحدّث العارفون والخبراء عن مجموعة من المؤشّرات التي تؤكد أنّ الهجوم الأخير، معطوفًا على الهجمات المركّزة على حيفا في الأيام الأخيرة، ليس مجرّد هجوم "روتيني" ضمن سلسلة الهجمات التي واظب الحزب على استكمالها، في أصعب المحطات وأكثرها حرجًا، خصوصًا بعد الضربات المؤلمة التي تعرّض لها، وبعد تآكل بنيته القيادية على وقع الاغتيالات الصادمة والغادرة لقادة الصف الأول فيه، بشكل لم يكن قادرًا ربما على استيعابه.
في تحليل هذا الهجوم تحديدًا، يسجّل الخبراء العسكريون سلسلة من "نقاط القوة" التي يبدو أنّ الحزب لا يزال يحتفظ بأوراقها، رغم كلّ البروباغندا التي عُمِل عليها وأوحت بأنّ مجرّد الصمود وعدم الاستسلام، أصبح أقصى المأمول منه، فالحزب نجح في اختراق الرادارات الإسرائيلية، من خلال عملية "مزدوجة"، عمد من خلالها إلى إطلاق عشرات الصواريخ أولاً تحت عنوان "إشغال" منظومات الدفاع، قبل أن يطلق العنان للمسيّرات التي أصابت أهدافها.
وضمن نقاط القوة، يلاحظ العارفون "دقّة" الاستهداف أيضًا، فهو ضرب معسكرًا تدريبيًا تابعًا للواء غولاني، قالت أوساط الحزب إنه "غير معلوم للكثير من المستوطنين"، محاولاً بذلك إظهار جانب آخر من "قدراته الاستخباراتية"، أكّدها حجم الإصابات الكبير، خلافًا لمعظم ضرباته "المحدودة" السابقة، وكأنّه أراد القول إنّه قادر على "الإيلام"، وإنّ حرصه في السابق على "تجنّب الحرب"، لا يجب أن يُفهَم "ضعفًا أو عجزًا" على المستوى الإسرائيلي.
لا شكّ أنّ الحزب ضرب أكثر من عصفور بحجر هجوم حيفا النوعي، فهو أكّد أنّه لا يزال يحتفظ بأوراق قوة، بعكس ما يروّجه الإسرائيليون والكثيرون من خلفهم، وأعاد إحياء معادلات "الردع" التي اعتقد كثيرون أنّها ولّت، خصوصًا أنّ الهجوم جاء ردًا على استهداف العاصمة، إلا أنّه لم يحجب الغموض حول مجريات المعركة، فهل يمكن القول إنّ التوازن عاد إليها، بما قد يتيح العمل على إنهائها بالطرق الدبلوماسية، أم أنّ الآتي سيكون "أعظم" هذه المرّة؟!.
يقول العارفون إنّ كلّ الاحتمالات والسيناريوهات تبقى قائمة، إلا أنّ الأكيد أنّ مثل هذه الهجمات مفيدة في سياق المواجهة، التي كان واضحًا غياب التوازن بالمُطلَق عنها على مدى الأسابيع الماضية، حتى كادت تتحوّل إلى "حرب من طرف واحد"، فيما كان الجميع يسأل عن معادلات الردع التي لطالما تحدّث عنها "حزب الله"، وعن ترسانة الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها، والتي تساءل كثيرون متى يحين موعد استخدامها، إذا لم يكن اغتيال السيد نصر الله مثلاً كافيًا لذلك.
قد يتناقض هذا التفسير مع شعور كثيرين بالخوف والتوتر بعد الهجوم، على اعتبار أنّه قد يؤدّي إلى ردود فعل إسرائيلية غير محسوبة، وأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لن يسكت، وأنّ ردّه قد يكون أكثر "جنونًا" من كلّ ما سبق، إلا أنّ العارفين يشدّدون على أنّ مثل هذه الحسابات لا تصحّ "في زمن الحرب"، بل في زمن السلم لتجنّبها، علمًا أنّ الأسابيع الأخيرة أثبتت أنّ الإسرائيلي ليس بحاجة لأيّ ذرائع لارتكاب أبشع المجازر وأكثرها وحشيّة.
استنادًا إلى ما تقدّم، يستبعد العارفون أن يكون هذا الهجوم "حاسمًا" في تحديد "بوصلة الحرب"، إذ من غير المنطقي الاعتقاد بأنه سيخلط الأوراق فعليًا، كما أنّه من غير المتوقع أن يؤدّي إلى وضع حدّ لآلة الحرب الإسرائيلية، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ "تراكم" هذا النوع من الهجمات يمكن أن يدفع نحو تغيير في المقاربات، وبالتالي تعبيد الطريق أمام المفاوضات السياسية، التي تفرز "تسوية" تكون مقبولة من الأطراف، بعيدًا عن الأهداف التعجيزية عالية السقف.
هكذا، قد لا يكون من المبكر لأوانه الحديث عن استعادة التوازن في المعركة التي يعتبر كثيرون أنّها غير متكافئة، ولا حتى عن تكريس قوة الردع، التي فقدت الكثير من هيبتها في الأسابيع الماضية. لكنّ الأكيد أنّ هجوم بنيامينا جنوب حيفا يمكن أن يشكّل "مقدّمة" في مسار استعادة التوازن هذا، خصوصًا إذا ما صحّ الانطباع بأنّه يعكس قرارًا من جانب "حزب الله" بأنّ الحرب فُرِضت عليه، وبالتالي فإنّ الوقت قد حان للتحرّر من كلّ الحسابات والقيود والضوابط!.