لا يستطيع مَن يتابع التطورات العامة الا ان يتبين ان المنطقة العربية ذاهبة في اتجاه مشاريع جديدة تثير القلق والخوف، نظرا الى طبيعتها التقسيمية والتفتيتية، منذرة بحرب الالف عام. ما يجري في العراق وسوريا وسواهما من احداث ومجازر، يرسم بالدم حدود الكيانات المذهبية والعرقية. وما يمثل فصولا عند تخوم لبنان شرقا وشمالا يدل على ان هذه المشاريع هي في الحقيقة طروحات متداولة في كواليس السياسة الدولية والغرف المغلقة، المكتظة بنسخ عن خرائط دويلات مفترضة على انقاض دول قائمة، يكاد ينتهي مفعولها عندما تلفظ معاهدة "سايكس ـ بيكو" انفاسها. لكن تحقيق هذا الامر يتوقف على قدرة الساعين الى صوغ رؤية جديدة للمنطقة التي تصارع الموت، ويراد لها ان تئد حوار الحضارات، وتجعله من مخلفات الماضي.
بدأ هذا المشهد المأساوي الذي يلف المنطقة يهدد النموذج اللبناني في الصميم، ويضرب ثقافة الحياة والعيش معا، ويقضي على خصوصيته، ويقضم ما تبقى من وجهه، ويمحو دوره، ويطبق على رسالته التي جعلها الإرشاد الرسولي مثالا يحتذى.
في حمأة هذه الاخطار المتوالية يجدر السؤال: هل نعي جميعنا في لبنان فداحة ما يحصل، وما يخطط للمنطقة؟ هل نفلح في توحيد الصف والكلمة، وابتداع الآليات لرصد الاخطار والتصدي لها، بما يحفظ كيان الدولة، وما يمثله من وحدة ارض وشعب وحدود.
لعل ما يبعث على الاسف في هذا المشهد، ان المكونات اللبنانية لم ترتقِ بعد الى مستوى التحدي، لانها تعيش ـ او يراد ان تعيش ـ حالات توجس بعضها من بعض، بدلا من التوجس من الخطر الخارجي الوافد الذي يطرق ابواب الوطن بقوة، غير آبه بنسيجه المختلف ـ المؤتلف.
ان لبنان، شأن البلدان المجاورة، يعيش هاجس ابدال الوحدات الجغرافية الوطنية لهذه البلدان بالوحدات المذهبية العابرة للحدود. فأي عدّة اعددنا لمواجهة هذه التحديات الداهمة؟ هل بدأنا حوارا جادا وعميقا على قاعدة ان الخطر يتهددنا جميعا؟ وانه خطر وجودي لا يستثني مكونا من دون آخر، خصوصا اذا كان اللبنانيون جميعهم يتشبثون بمقولة "ان لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه".
هل من سبيل الى ترجمة عملية لمفهوم نهائية الوطن، والعيش الواحد، ووحدة الارض والشعب اذا كانت النظرة الموحدة الى الارهاب وكيفية مواجهته مفتقدة، لا بل موزعة على مقاربات مشتتة وفق مصلحة هذا الفريق او ذاك؟
من الخطأ الجسيم التعامل مع الواقع الارهابي كأنه شأن ثانوي وعابر، او الظن بأن تحييد لبنان والنأي به عمّا يجري في المنطقة يمكن ان يشكل شبكة امان له. لكن هذا الخطر في الحقيقة يتسلل ويضرب ويوقع الضحايا. المطلوب مواجهته وشل قدرته على استباحة الحدود.
اذا كان اتفاق الطائف وُضع لتوحيد اللبنانيين حول مسلمات ميثاقية، وكي يبني رؤية متكاملة لمفهوم الدولة، فما الذي يؤخر او يمنع وضع استراتيجيا رسمية لمواجهة الارهاب وضرب ركائزه وتقويض مقوماته على الصعد كلها، ومباشرة رسم خطة دفاع للتصدي له ووجهه الآخر اسرائيل.
في الواقع يبدو ان النظرة الى الإرهاب تختلف بين فريق لبناني وآخر، فيما يفترض ان تشكل مكافحته جامعا مشتركا بينهم جميعا لئلا ينبطق على اللبنانيين المثل: "أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الابيض". تاليا ليس المطلوب الاعراب عن خوفنا وابداء القلق، بل تظهير ارادة البقاء ضمن لبنان الواحد ارضا وشعبا، وهذا يقتضي حشد كل الطاقات والإمكانات لصد خطر الإرهاب، وإسقاط تداعياته وشل مفاعيله.
مَن يحمي الحدود اللبنانية؟ طبعا الجيش يأتي في المقدمة. لكن هذه الحماية تظل منقوصة اذا لم ترتكز الى حاضنة شعبية مقاومة، تتوافر لها اسباب القدرة على مواجهة الخطر الجاثم والداهم. وان التصدي للارهاب ينطلق من الاقتناع بأن خطره يطاول الكل ولا يوفر احدا. من هنا واجب تسليح الجيش والقوى الامنية الاخرى، لان الانفاق على الدفاع وسلامة الحدود بات امرا ملحا لا يحتمل التأجيل.
الوقت يُستنفد، ولم تعد المناورات متاحة بعدما بدأ يضيق هامشها، وهي اصبحت مثابة الحبال التي يُخشى ان تلتف على الاعناق، ما يلزم الجميع وضع استراتيجيا وطنية لمكافحة الارهاب باشكاله المختلفة، ويجب ان يكون اولوية لكل المنادين بنهائية لبنان وطنا ازليا وسرمديا، تتكامل اهدافهم عندما تعصف الاخطار به، وتهدد بانهياره كيانا موحدا لكل ابنائه.
حان الوقت لوضع الخلافات جانبا، وطي صفحة الانقسامات، والمضي في عملية انقاذ شاملة تلف ايجابياتها الجميع. وهذا ما يراهن عليه اللبنانيون، وينظرون في هذا الاطار الى جلسات الحوار او الى مَن يدعون اليه بكل امل في ان يتوصلوا الى مساحة مشتركة من التفاهمات، تؤسس لاستعادة الدولة ومؤسساتها دورها في ازاحة الغيوم السود اولا، وتضميد جراحه والانشقاقات والاصطفافات الحادة التي يعاني منها ثانيا، واعادته الى موقعه الفاعل والمميز في الداخل والخارج كي يبقى منارة الشرق كما عهده ابناؤه.
مسؤولية كبيرة علينا تحمّل وزرها مهما اشتدت الصعاب والتحديات، والا سنقف على اطلال لبنان نبكيه، كما بكى ابن عبدالله على مشارف غرناطة، وهو يستمع الى امه الناقمة: "إبكِ مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال".