أدى فشل المفاوضات والإتصالات لمعالجة موضوع ولادة أبرشية الروم الأرثوذكس في قطر، إلى تفجير الأزمة بين البطريركيتين الأنطاكية والمقدسية، بالرغم من الوساطات الكثيفة بين الجانبين في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى إعلان الأنطاكية قطع الشركة الكنسية مع المقدسية حتى إشعار آخر.
لهذا القرار، الصادر عن المجمع الأنطاكي المقدس، تداعيات مهمة، خصوصاً أن البحث في خلفية هذه الأزمة يشير إلى وجود أياد سياسية فيها، فما هي تفاصيل هذا الخلاف، مع العلم أن هناك تحفظات على الدخول فيها رسمياً؟
تجمع مصادر روحية وأخرى مطلعة على أن الموضوع القطري هو الأساس، بالإضافة إلى طريقة تعامل البطريركية المقدسية مع هذه الأزمة، وتشير إلى أن هناك "تعدّيًا" من قبل الأخيرة على حدود البطريركية الأنطاكية الجغرافية، من خلال إنشاء الأبرشية في قطر، وتلفت إلى أن الحل كان من المنتظر أن يكون بروح سلامية على أساس التعاون والتنسيق مع الكنائس الأرثوذكسية المختلفة.
تلفت هذه المصادر الأنطاكية إلى الوساطات التي قامت بها البطريركية المسكونية والكنائس الأخرى والحكومة اليونانية من دون الوصول إلى نتيجة، بعد تنصّل البطريركية المقدسية مما تم الاتفاق عليه سابقاً.
وتشير المصادر المطلعة، عبر "النشرة"، إلى ضغوط إسرائيلية بشكل أساسي تعرض لها البطريرك المقدسي ثيوفيلوس الثالث للقيام بهذه الخطوة، وتشدد على وصف ما حصل بأنه "تعدّ" على حقوق بطريركية أنطاكيا من دون وجه حق، رغم أن نطاق البطريركية المقدسية موجود في القدس والأردن فقط.
وتوضح هذه المصادر أن البطريركية المقدسية هي الأخيرة التي خُلِقَت في المنطقة، في حين أن البطريركيات الأساسية هي الأنطاكية والإسكندرية، إلا أن السلطات العثمانية سلمت السلطة في الأراضي المقدسة إلى اليونان كي لا تسلمها إلى أهلها، وتضيف: "تاريخياً، كل منطقة الخليج العربي تابعة لبطريركية أنطاكيا".
وتعتبر هذه المصادر أن هذا الموضوع قد لا يعني السلطات القطرية، لكنها تجزم أن إسرائيل يهمها كثيراً، نظراً إلى تداعياته على وضع المسيحيين في الشرق لناحية تشتيت كلمتهم.
أما المصادر الروحية، فتشير إلى أن القضية بدأت منذ لحظة تعيين شخص من قبل الكنيسة المقدسية لمتابعة شؤون الرعية في قطر، نظراً لعدم إمكانية تعيين شخص أنطاكي، ومن ثم تطور الموضوع، رغم أن البطريركية الأنطاكية أوضحت حقها من خلال تأكيد سلطتها على منطقة الخليج العربي.
وتشرح المصادر المشكلة منذ بداياتها، أي منذ العام 1997 عندما وجه السفير الأميركي في قطر في ذلك الوقت باتريك ثيروس، دعوة للأرشمندريت ثيوفيلوس، البطريرك المقدسي حالياً، لزيارته في الدوحة، ومن ثم سعى لدى السلطات القطرية لتأمين حضوره والسماح له بإقامة صلوات الأيام الثلاثة الأخيرة من أسبوع الآلام وكذلك إقامة قداس الفصح.
بعد ذلك، أي في العام 1999، قام البطريرك المقدسي السابق ذيوذروس الأول بزيارة إلى الأمير القطري، تلاها إرسال كاهن إلى قطر لإقامة صلوات أسبوع الآلام وقداس عيد الفصح وقداس عيد الميلاد، قبل أن يقرر المجمع المقدس الأورشليمي إرسال الأرشمندريت مكاريوس للإقامة بشكل دائم هناك في العام 2004، ومن ثم إنتخابه مطراناً على أبرشية قطر، في آذار 2013، بعد استحداث هذه الأبرشية، بالرغم من إعتراض البطريركية الأنطاكية على الأمر.
وفي آذار 2013، إعتبر المجمع الأنطاكي المقدس، بعد إجتماعه بدورة إستثنائية، أن ما قامت به البطريركية المقدسية تعد، وطلب منها إصلاح الوضع في أسرع وقت كي لا تضطر إلى اتخاذ مواقف تصل إلى قطع الشركة مع الكرسي المقدسي (الأمر الذي حصل حالياً).
وفي حزيران 2013، قرر المجمع الإنطاكي المقدس، قبول مبادرة البطريركية المسكونية لعقد لقاء في وزارة الخارجية اليونانية، وتم في الإجتماع الإتفاق على مبادرة ثلاثية النقاط، قوامها إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل الرسامة الأسقفية، ومن ثمّ تدارس الحضور الرعائي لبطريركية القدس في قطر وفقاً للتقليد الكنسي المستقر.
على الرغم من ذلك، لم يتم الوصول إلى أي إتفاق فيما بعد، لا بل تعاظمت المشكلة على مراحل إلى أن تم الإعلان من جانب البطريركية الأنطاكية عن قطع الشركة الكنسية، والتأكيد على أن أي حل للنزاع القائم يجب أن يستند الى ما تم الاتفاق عليه في أثينا.
على هذا الصعيد، تشير المصادر الروحية إلى أن إرسال البطريركية المقدسية لكاهن كي يتولى شؤون الرعية في قطر، لا يمنع أنها فعلياً تابعة كنسياً وإدارياً للأنطاكية، وتلفت إلى أنها في البداية أخذت الموضوع بطابع "أخوي"، لكن اليوم هناك "إحتلال" و"تعد"، وترى أن قطع الشركة الكنسية قد يصل إلى حد عدم الإعتراف بشرعية البطريركية المقدسية، بالرغم من أن البطريرك يوحنا العاشر يازجي أوضح أنها تشمل حصراً الإكليريكيين، بحيث لا يمكنهم الإشتراك في أي خدمة يترأسها أو يشارك فيها إكليريكيون من البطريركية المقدسية، إلا أنه لا يتناول العلمانيين الأنطاكيين الذين يمكنهم المشاركة في القداديس والمناولة والأسرار المقدسة.
وحول الإشارات السياسية لناحية الضغوط الإسرائيلية، لا تستبعد هذه المصادر الأمر، حيث ترى أن كل شيء على المستوى القيادي الكنسي له بعد سياسي، وترى احتمال وجود ضغوط على هذا الصعيد لإقصاء الكنيسة الأنطاكية المقاومة، خصوصاً أن البطريركية المقدسية تتغاضى عن تأجير وبيع أملاك الوقف في الأراضي المقدّسة.
من جانبها، تفضل المصادر الرسمية في البطريركية الأنطاكية، عبر "النشرة"، الإكتفاء بما تم الإعلان عنه في بيان القرار على الرغم من كل الضغط الحاصل، واعتباره واضحًا لأن من حق المواطنين الإطلاع عليه، وترفض الحديث عن ضغوط إسرائيلية لدفع البطريرك المقدسي إلى هذه الخطوة، وتقول: "نحن نعمل بالصلاة والسلام ونسعى إلى الوئام بين جميع الأخوة وليس فقط الأرثوذكس، ولا نعرف غيرنا كيف يعمل وما هي علاقاته ولا علاقة لنا بذلك".
من جانبها، كانت البطريركية المقدسية قد عبرت، على لسان الناطق باسمها عيسى مصلح، عن استغرابه للقرار المتخذ من قبل البطريركية الأنطاكية، مؤكدا أن البطريركية المقدسية لم يصلها لغاية الآن أي كتاب رسمي حول هذا الأمر، ومشيرا إلى أن مجمع الكنيسة المقدس سيلتئم في حال صحت المعلومات للبحث بالقرار، واتخاذ الإجراءات المناسبة. وشدد على أنها متواجدة في قطر منذ تسعينات القرن الماضي، ولم يتم الاعتراض على هذا الوجود، حيث كانت تخدم الجميع على مختلف انتماءاتهم الكنسيّة، وموضحا أن القضية ماتزال قيد البحث والنقاش مستمرّ بين الكنيستين الشقيقتين.
في المحصلة، من المؤكد أنه سيكون لهذه المشكلة أو الخلاف تداعيات خطيرة على أوضاع المسيحيين في الشرق، في حال لم تعد الوساطات والإتصالات إلى الواجهة من جديد، لا سيما أنهما معنيتان بالمخاطر نفسها، ومن المفترض أن يكون التعاون أساس العلاقة بينهما.