مشهد تساقط أنوار الفجر من خلف جبال لبنان العالية الجبين على مدينة بيروت، ومن على شرفتي في سوق الغرب، ومن ثمّ مشهد الغروب حيث ضياء الشمس تمازج مع البحر بسطوع رائع وبهاء كثيف، أوحى أنّ لبنان وليد الرجاء، وله قيامة آتية لا محال تحرّره من ركام الفساد وتشفيه من تراكم الجراح المثخنة فوق جسده المديد، تلك هي آمال اللبنانيين وأمنياتهم المحتشدين في ساحة الشهداء، أو المنتظرين في بيوتهم حتى يولد نظام جديد ينفض وحول الفساد من جوفه وأرضه، ليظلّ وليد النور متمرّدًا على الظلمات الداكنة والظلامات العسفة.
ما من شكّ بأن لبنان دخل مرحلة حاسمة بكلّ ما للكلمة من معنى. يشي بهذه الرؤية الشديدة الوضوح حجم التظاهرة في ساحة الشهداء، والتي انتهت كما سابقاتها بمواجهات مع قوى الأمن. من نوافل القول بأن منظّمي التظاهرة يأبون أي اعتداء على القوى الأمنيّة وظهر هذا غير مرّة في أدبيّاتهم وقالوه في تصريحاتهم. وتقول بعض المصادر بأنّ اللباس الموحّد اللذي ارتضوه لأنفسهم قد عرّى الجهة المتسللة إلى وسطهم باسم النظام الطائفيّ لكي تعتدي على القوى الأمنية، والاعتداء في فحواه وطياته يحمل المزيد من الحماية لحكومة المصلحة الوطنيّة خوفًا من سقوطها في الشارع، لكنّ الإرادة والرغبة عند هؤلاء الدخول في مشروع الإسقاط. وقد تكشّفت الرغبة وتكثّفت بحجم التحضيرات اللوجستية والسياقات التنظيميّة، ممّا دفع جهات عديدة لطرح سؤال واضح، من موّل هؤلاء، وبخاصّة أنّ حجم التمويل قد ترجم بشراء أجهزة وزّعت على الكوادر منهم فضلاً عن اللباس الموحّد والاعلانات التي فاجأت الناس؟
كلّ الإشارات تظهر بأنّ تلك المظاهرة بتعدد منظّميها وتسمياتهم، تنتمي إلى تبويب أخرويّ. هذه الأخرويّة لم يكن لبنان ولا لحظة في مشيئاته السياسية وكل الحراك المتراكم فوق أرضه متحرّرًا من حروفها، ستبقى الراسخة في تحديد الأهداف والضغط باتجاه تحقيقها. وقد اشارت بعض الأوساط المراقبة إلى دور مزدوج للسفارة الأميركيّة، ظهر مع تصريح للسفير الأميركي لدى لبنان ديفيد هيل، حين رفض المساس بالمتظاهرين وقمعهم وهذا مبدأ حسّاس للغاية في طبيعة السياسيّة الأميركيّة على الأقل من حيث ظهورها الإعلاميّ، وفي الوقت نفسه يحفّز القوى السياسيّة بعدم إسقاط الحكومة، ذلك أنّ النتيجة تقود نحو فراغ عدميّ، فالمطلوب وبوضوح تام تعايش معظم القوى السياسيّة في هذا النظام السياسيّ على الرغم من اهترائه لريثما توضّحت معالم المرحلة الجديدة وخطوطها في المنطقة.
الضبابيّة الأميركيّة هي المحيّرة للأمر. ليس واضحًا بعد ماذا يريد الأميركيون بالتأكيد على تلك الازدواجيّة المتناقضة مع ذاتها، فهم يدعمون مبدأ التظاهر وفي المقابل يحذّرون من سقوط الحكومة. إذًا ما هو هدف التظاهر؟ تجيب مصادر مطّلعة في هذا الاتجاه بأنّ الأميركيين يستهلكون ورقة الاحتجاج الشعبيّ، وبالتحفيز الإعلاميّ المتدحرج بكثافة، في صراع مفتوح تداخلت فيه السعوديّة وقطر ومصر بوجه إيران وسوريا، لأخذ لبنان إلى مشروع وصايات جديدة في إطار سياسيّ جديد. وقد بدأت الرؤية تتوطّد باستهلاك ورقة النفايات كلغم فجّر الصراع، فتساءلت بعض القوى حول سبب شروع النائب وليد جنبلاط بإقفال مطمر الناعمة بصورة مفاجئة من دون بديل له؟ لماذا شركة سوكلين لم تدخل في بازار المناقصات، وقد نقلت مصادر عن رئيس مجلس إدراتها ميسرة سكّر قولاً له: "لن ندخل هذا البازار وستندمون على خروجنا من مسالة النفايات"؟ لم يتأزّم النظام السياسيّ اللبنانيّ إلى هذه الدرجة بسبب مسألة النفايات كما تأزّم الآن بعد إقفال مطمر الناعمة، وبالتالي بعد خروج ميسرة سكر من المعادلة لينكشف بوضوح، بأنّ كلّ هذا يتمّ بتخطيط واضح، أبطاله المحليّون هم رئيس مجلس النواب نبيه برّي والنائب فؤاد السنيورة فضلاً عن جنبلاط ولو ظهر الفريقان الواضحان على خصومة بسبب هذا الملفّ، فهما في حقيقة الأمر يتبادلان الأدوار، والخصومة تبقى مجرّد شكل في جوهر الخطة ومشيئتها وسيرورتها.
إنّ حراك الداخل السياسيّ والذي بحدّ ذاته أدّى إلى الحراك على الأرض، جزء من كلّ، من صراع بدأ يشتدّ بين محورين بكلّ ابعادهما وخطوطهما. ما لم يدركه منظّمو الحراك الشعبيّ في ساحتي رياض الصلح والشهداء، بأنّ النظام السياسيّ بأبعاده الطائفيّة لا يزال قويًّا ومتينًا أكثر مما يتصوّره أحد. وعلى الرغم من التأييد للمطالب الشرعيّة والمحقّة، وعلى الرغم من الإقرار بأنّ الحكومة سقطت شرعيًّا في أذهان الناس ووجدانهم، وفي بعض من سلوكياتها سقطت أخلاقيًّا، إلاّ أن السؤال الموجّه بسمة عقلانيّة مجرّدة، هل من بديل واضح للنظام الطائفيّ؟
الطائفيّة هي قلب هذا النظام وعقله ودماغه، وقانون الانتخابات المبنيّ على الأسس الطائفيّة هو هيكله العظميّ، وقد ثبت هذا الأمر بالحقيقة العلميّة-السياسيّة، وبالمنهج التاريخيّ منذ القرن التاسع عشر إلى الآن. وحين اشتدّت سواعد الغلاة لإسقاط المارونيّة السياسيّة في لبنان كانت السنيّة السياسيّة المحتكرة البديل الواضح، تساندها في بعض وجوهها الشيعيّة السياسيّة المحصورة بوجه واحد وهو رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي. المعضلة ليست بالطائفيّة، بل بالفوضى التي شابتها وحرّفتها عن اعتدالها وعدالتها، فقضمت الفوضى مبدأ المشاركة الفعليّة، وجوّفت المناصفة من حقيقتها الفعليّة إلى واقع لفظيّ. وهذا ما يعرفه منظمو الاعتصام، المعضلة الأخرى قائمة في الفساد، وهو نتيجة التحريف الممارس من أرباب النظام الطائفيّ، وهو عنوان الاحتجاج. لقد أمسى الفساد بحدّ ذاته نظامًا يعيش ضمن النظام، تقوده مافيات تنتمي إلى بعض "النفايات السياسيّة"، وهو العنوان المفترض أن يعالج. غير أنّ الخطورة في فلسفة التظاهر بالشكل والمضمون، تكمن في شيطنتها وأبلستها بالعوامل الداخليّة المجوّفة لها والدوافع الخارجيّة المحرّكة لمنطق التجويف... فالأبلسة كانت المنطلق لتغيير ليس في النظام بل في العناوين بالترجمة السياسيّة والأمنية لها منذ الطائف إلى الدوحة فهل حان وقتها لتتم في مكان آخر... وفي النتيجة ليس من تكوين لنظام سياسيّ بل ثمّة تعويم بأطر جديدة تسندها تسويات جديدة.