تحمل معركة الحسم في طيّاتها، والتي يقودها التحالف الإيرانيّ-الرّوسيّ في المدى السوريّ وصولاً إلى حلب، معالم المرحلة المقبلة في الداخل اللبنانيّ. إنّها مرحلة تقرير المصير بفحواه الاستراتيجيّ ومضمونه التكوينيّ-التأسيسيّ الجديد. لن يكون لبنان في ظلّ الرؤى المنبعثة من عملية الحسم الميدانيّ في سوريا كما كان قبلها، بمعنى أن لبنان لن يكون وبحسب ما تراءى لعدد من الأوساط في قلب شرق اوسط جديد على مقياس أميركيّ-سعوديّ، فهذا المقياس ترجرج وتدحرج، بتلك النماذج التي فرضت على شعوب المنطقة، فأحرقت أرضها وهجّرت الناس إلى مجهول أسود خلف البحار.
ثمّة شرق أوسط جديد، سيكون لبنان في قلبه، سيسير باعتدال مقاييسه، واتزان معاييره. فما هي استفادة لبنان من ذلك الحراك المتوهّج والمتصاعِد بإطاره الحاسم والحازم بالإطار العسكريّ والأمنيّ؟
بادئ ذي بدء، يقول مصدر سياسيّ بأنّ على بعض الفرقاء السياسيين اللبنانيين بمختلف مشاربهم أن يعترفوا بأنّ اتفاق الطائف كأساس تسوويّ قد انتهت صلاحيته، بمعنى أنّه مات مع تبدّل الرعاة وتغيير قواعد اللعبة في الساحة العربيّة ككلّ، وهذا ما لم يفعلوه. والمرحلة وبفعل الاصطفاف الجديد للقوى في المنطقة تشي بضرورة لبننة الخيارات السياسيّة الداخليّة من ضمن فعاليّة اللحظة، قبل اقتحامها لمفرداتنا من أرض الميدان في المثلّث اللبناني-السوري-العراقيّ على قاعدة التأثير والإملاء. هنا يستفيد لبنان. اللحظة تكتب اللبننة إذا التقط السياسيون بخلفياتهم المنظورة وغير المنظورة السياق المنبعث منها قبل فوات الأوان. ويؤكّد مصدر سياسيّ بأنّ مبدأ الغالب والمغلوب، إن ترسخّ بفجاجته إنّما سيترسّخ لحقبة طويلة من الزمن، بفعل استكمال اندراج بعض القوى في الخيارات الفوضويّة في سوريا بدعمهم المستمرّ العلنيّ أو المستتر، للقوى المعارضة أو التكفيريّة، والرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين العارف بخفايا الأمور بدقّتها، قال كلامًا جديًّا وقاسيًا، بأنّه سيضرب التكفيريّين ولن يميز بالقصف والهجوم بين متشدّد ومعتدل، الهمّ عنده في القتال أن تعود سوريا إلى توازنها بحلّ سياسيّ جديد قائم على رؤى تكوينيّة تشترك في انبثاثها وإطلاقها كل القوى من دون اسثتناء، فيختار الشعب فيها قاعدة المشاركة المتوازنة مع رئيسه، وهذا عينًا ما سينساب وينطلي على الواقع اللبنانيّ.
لم تكن التظاهرة الحضاريّة بكلّ ما للكلمة من معنى على طريق القصر الجمهوريّ مجرّد تمتمة أو صوت أطلق في فضاء أغبر. بل هي في إطارها وعلى رغم هدوء رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون في خطابه، حركة مساهمة بالتأسيس لوطن يتكوّن من عاملين: النسبيّة والمناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وتكشف أوساط متابعة للوضع بأنّ الوجود الروسيّ في المشرق العربيّ سيؤمّن وبالتحالف مع إيران ذلك اللقاء بين المسيحيّة المشرقيّة والإسلام المعتدل أو القرآنيّ بحسب توصيف رئيس الحكومة السابق سليم الحص، من دمشق إلى بيروت. سيتجلّى هذا اللقاء في سوريا حتمًا بدستور وحكومة جديدة، وفي لبنان بنظام يوطّد روح المشاركة بين الجميع، ويسعى لرئيس يملك صفة القوّة بالحقّ والدستور وليس ضبابيًّا يشاء رضا الجميع على حساب لبنان ككيان وهم يمتصون دماء اللبنانيين وأموالهم.
وتقول بعض المعلومات، بأنّ السعوديّة حاولت التسلّل إلى المعطى اللبنانيّ بالتمويه، فقدّمت عبر شخصيّة سياسيّة اقتراحًا مفاده أن يتم انتخاب إمّا الوزير السابق جان عبيد أو قائد الجيش العماد جان قهوجي لمرحلة انتقالية تدوم لمدة سنتين، وما لبث هذا الاقتراح أن سقط ورفض رفضًا مطلقًا. الرياح الهابّة لا تسمح بمثل تلك المرحلة بل بتكوين جديد.
ويسأل مصدر مقرّب من قوى الثامن من آذار عن دعم العماد عون فيجيب بأنه نهائيّ لا رجوع عنه على الإطلاق إلاّ إذا تراجع عن ترشيحه، ولكنّ هذه القوى تصرّ على رئيس قويّ مهما كان الأمر. وتظهر بعض الاستطلاعات بأنّ خروج العميد شامل روكز من قيادة فوج المغاوير بسبب بلوغه سن التقاعد وعدم ارتضاء التسوية لن يمرّ بلا ثمن كبير، ذلك أنّ التسوية لو نفذّت، لكانت ساهمت بتعبيد الطريق للتسوية الكبرى القائمة على تلاقي الوجدانات الطائفيّة بغالبيتها التمثيليّة المطلقة في قالب ميثاقيّ واحد. هنا يعتبر سياسيّ مخضرم بأنّ العماد ميشال عون إن قرّر الانسحاب فسيكون انسحابه لمصلحة العميد شامل روكز.
تلك هي آفاق المرحلة الجديدة في لبنان. عنوانها الكبير مشاركة الجميع في تكوين وطن وجمهورية تطلّ على سلام عادل وشامل.