أحاول أن أتخيّل كبار المسؤولين السوريين، أو من تبقى منهم، وهم أمام هذه المأساة الفظيعة، المروّعة، الكارثية (...) التي يغرق فيها البلد الشقيق وأهله الطيبون بأطيافهم كلها.
أحاول أن ألبس جلودهم ولو لهنيهات عابرة، لأطرح على ذاتي السؤال: أين كنّا وأين أصبحنا؟!
وأحاول أن أتخيلهم وقد جاءهم الجواب، أو إستحضروه من أفكارهم ومن تجاربهم ومن تجاوزاتهم اللامحدودة في وطننا الصغير المعذّب لبنان.
كانت سوريا الرقم الصعب في المنطقة فأضحت لا رقماً.
كانت سوريا اللاعب الأول (وشبه الوحيد) في المنطقة، فأضحت الملعب الذي يتبارى فيه الجميع، الكبار والصغار على حد سواء.
كان رئيس سوريا يستطيع أن يقول: »لا« (بشكل أو بآخر) للرئيس الأميركي. وكان يرفض أنْ يتوجه الى واشنطن ليلتقيه... فكانت جني المحطة الوسطى بين عابر الأجواء فوق البحر المتوسط وعابر الأجواء فوق المحيط الأطلسي، ليلتقيا في تلك المدينة الأنيقة الهانئة على ضفاف بحيرتها الرائعة التي تغزّل فيها كبار شعراء العالم وأبرزهم »لامارتين« (أحد أعظم شعراء فرنسا) وعرّب قصيدته الدكتور نقولا فياض بالمطلع الشهير: »هكذا تنقضي دوما أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا«.
وكانت سوريا تفرض وصايتها على لبنان بقبضة من حديد... ومنه تفرض نفوذها في الإقليم وفي الخارج. وتلك الوصاية، وبسبب النفوس الضعيفة اللاهثة وراء الثروة والجاه والمناصب بأي ثمن، حوّلت لبنان الى تابع لسوريا فاقد الأهلية والموقف وطبعاً الدور.
وكانت الوصاية قد هيمنت على مفاصل البلد كلها من »تعيين« المختار أحياناً الى تعيين رئيس الجمهورية...
وأذكر، على سبيل المثال لا الحصر، مثلين إثنين أنا شاهد عليهما: الأول - كان مراسلو الوكالة الوطنية للإعلام ورؤساء مكاتبها يتصلون بي، على مدار الساعة، لإطلاعي على كل ما يستجد. أحياناً يكون الإتصال خلال إجتماع يترأسه ذلك الوزير للإعلام الذي ضبط بالجرم الإرهابي المشهود. فمن باب اللباقة كنتُ أطلعه على ما أكون قد تلقيته من معلومة خلال الإجتماع... ولم يكن لينتظر قليلاً إنما يبادر فوراً الى الإتصال هاتفياً برستم غزالة أو بعض معاونيه من الضباط فينقل اليهم المعلومة... فوراً! من دون حياء أو خجل... وطبعاً من دون أي احترام لذاته وللوزارة.
الثاني - تلقيت إتصالاً هاتفياً ذات يوم ليقول لي المتحدث على الطرف الآخر بلهجة غاضبة: بدّك تعمل وزير؟ ما بتعرف اني أنا اللي بعمل الوزرا؟!.
(وكان رستم غزالة) واستغربت مضمون الإتصال ليقول لي: غداً نلتقي الساعة كذا... ثم بعد دقائق عاد ليتصل ويقول: تأجل اللقاء لأنني منشغل بـ»هالـ...« اللي عاملين «حرب المكاتب«. ويومها كانت »معركة إعلامية كبيرة دائرة بين الرؤساء المرحوم الياس الهراوي ونبيه بري والمرحوم رفيق الحريري إنطلاقاً من تبادل اتهامات كبرى تصدر عن »المكتب الإعلامي« لكل منهم. (واعف عن ذكر كلامه في حق كل منهم).
استعدت ملامح تلك الحقبة، أمس وقد حلّت فيه ذكرى 7 آب الشهير يوم تصدى شبان وشابات من «التيار الوطني الحر» وايضا من القوات والكتائب للوصاية إياها... تصدّوا بصدورهم العارية وبإيمانهم بوطنهم... وكانوا شعلة منيرة في ذلك النفق المظلم.
... وأنا من الذين يتمنون لسوريا وقف الحرب، والتوجه الى طاولة مفاوضات حقيقية... فنحن من الذين لا يريدون لسوريا إلا الخير، ونأسف، بل نتألم، لما يجري فيها من مآس وكوارث وفواجع.