في ندوة عقدت في مكتبة الأسد الوطنية عن "بروباغندا الحروب"، شارك فيها الأستاذ الجامعي تيم أندرسون، والذي تابع الحرب على سورية وكتب كتابين يشرح بهما حقيقة ما يجري للإعلام الغربي، والصحفية البريطانية المرموقة فانيسا بيلي، والتي لم تنقطع أيضاً عن زيارات سورية طيلة هذه الحرب. استمع الجمهور إلى حقائق ومؤشرات جديرة جداً بالتأمل والتفكير. وقد كنت أرى الدهشة على وجوه الحاضرين وهم يستمعون إلى ما يدلي به هذان الباحثان من معلومات موثقة عن تعامل بلديهما "استراليا وبريطانيا" مع سورية قبل الحرب الإرهابية المتواصلة وخلالها. فقد قالت السيدة بيلي أنّها قرأت على صفحة البي بي سي الوثيقة الصلة بالمخابرات البريطانية في عام 2004 أنّ لديهم من تسميهم "إصلاحيين" في سورية، وأنّهم "يعملون على زيادة عدد هؤلاء "الإصلاحيين" بحيث يمكنهم الاعتماد عليهم في حكم "تدمير" البلاد". وسرد تيم أندرسون معلومات هامة جداً وموثقة عن علاقة المنظمات التي تدعي أنّها إنسانيّة بالمخابرات الأجنبية ودورها في تنفيذ خطط هذه المخابرات في البلدان التي تستهدفها. كما
قدمت فانيسا أنباءً موثقة عن أن منظمة "الخوذ البيضاء" هي استمرار لمثيلتها التي أنشئت في كوسوفو ولعبت دوراً في تأجيج الحرب الأهلية، وأنّها ممولة من الخزينة الرسمية البريطانية، وأنّ هذه المنظمة قد استغلت الأطفال وعذبتهم وقتلتهم وتاجرت بأعضائهم، وفنّد المحاضران بالصورة والوثيقة الاستهداف الممنهج لسورية والشعب العربيّ السوريّ وتكاتف أجهزة الاستخبارات والحكومات الغربيّة والإسرائيلية والخليجية التابعة لها، وما يسمى "بالمنظمات الإنسانيّة" لتحقيق هذا الاستهداف. وبهذا فإنّ "بروباغندا الحروب" وهي الحملات الدعائية المرافقة للحروب الاستعمارية الجديدة على الشعوب، أصبحت عنصراً فاعلاً وأساسياً في شنّ هذه الحروب على الشعوب والبلدان والتغطية على جرائمها وفي تأجيج الجماهير ضد دولها وضد بعضها البعض، وطالبت فانيسا بأن يصدر قرار أممي يعتبر "بروباغندا الحروب" جريمة ضد الإنسانيّة وذكرت أنّ هذا ما طالب به الاتحاد السوفياتي وقدّمه كمشروع قرار إلى مجلس الأمن في الخمسينيات من القرن العشرين، إلا أنّ الدول الغربية قد أحبطت إصدار هذا القرار. والسؤال هو هل نبقى نتحدث عمّا يخطط له ويقوم به الآخرون أم نفهمه ونقيّمه كي نتخذ خطوات فاعلة ومجدية في مواجهة هذه التحديات؟!!، وفي هذا الصدد قال تيم أندرسون
إنّ "بروباغندا الحروب" قائمة على سرد الأكاذيب والطريقة المثلى لمواجهة هذه الأكاذيب هو أن ترتفع الأصوات ممن يتعرضون لهذه الأكاذيب وألا نصمت إلى أن نصل إلى آذان المستهدفين من قبل مفبركي هذه الأكاذيب والجمهور الغربي الذي تمّ تضليله ونشر هذه الأكاذيب في أجوائه وإقناعه بها. وهنا شدّد أندرسون وبيلي على ضرورة ارتفاع أصوات سورية وخاصة الأصوات الشابة ودحض ما يتعرض له بلدهم من أكاذيب مغرضة يدفع ثمنها السوريون من دمائهم وأمنهم واستقرارهم ومستقبل أطفالهم. ولدى سؤالهما كيف يمكن أن ننفذ من خلال كلّ هذا التضليل ونوصل الحقيقة إلى جماهير مضلّلة، أجابا إنّ سرعة التواصل اليوم ووجود وسائل تقنية عابرة لكلّ الحواجز يجعل من السهل فعل ذلك، ولكن الأهم والبداية لابدّ أن تكون من خلال شباب محصّن فعلاً مؤمن بأن ما يتعرض له بلده هو مجموعة أكاذيب ملفقة ذات أهداف عدوانية خطيرة، وهذا يتطلب التخلص من حالة الاستلاب التي تتحدث عن إعلام حرّ وحضاري في الغرب عادل وموضوعي والبحث عن كلّ المفاصل التي خططت وروجت وعملت على إشعال هذه الحروب ضد شعبنا وهويته وحضارته واستقراره.
أي وبكلمات أخرى نحتاج إلى تأسيس تربوي وعقائدي وطني متين، وإلى متابعة ونشر ثقافة تفهّم الآخر المعادي لأمّتنا، وكلّ ما يقدّمه دون أن نقع ضحية لأساليبه التي يغلّف من خلالها خططه وبرامجه وأعماله العدوانية بأطر تبدو إنسانية ومحايدة، وفي هذا الأمر تواجهنا معركة تربوية وثقافية كبرى لأنّ الذي يجب أن يخطط ويعمل ليدافع عن قضاياه لابدّ وأن يكون متجذراً في عشقها وعصيّاً على كلّ الدعايات التي تحاول أن تغيّر له قناعاته أو تسيّره في طرق لا تحمد عقباها. وفي نظرة سريعة إلى تاريخنا الماضي والحاضر نجد أنّ معظم الكوارث التي حلّت بهذه الأمّة كانت على أيدي أشخاص غير متجذرين بقناعات بلدانهم وغير محصّنين ضد دعايات وأساليب الآخر فوقعوا ضحية "البروباغندا" الأعداء وانساقوا وراء ما يتم ترويجه لهم وإقناعهم بأنّ هذا لصالح بلدانهم بينما هو عنصر أساسي في استكمال مخططات الأعداء ضدّ بلدانهم وشعوبهم. لقد عملت الدعاية الغربيّة ومنذ عقود على تشويه مفاهيم أساسية ضرورية لمنعة بلداننا، فقد عكفت الدعاية الغربية ومنذ منتصف القرن الماضي على تشويه مفهوم الالتزام: كالأدب الملتزم والفن الملتزم واتهمت كلّ من ينتج أدباً أو فناً ملتزماً أنّ انتاجه سطحي ولا يرقى إلى المستوى العالمي، ذلك لأنّ الالتزام هو الموقف الأكيد
الذي يهزم مخططاتهم عن أرضنا. كما ألحقوا صفة التشويه بكلّ أمر "عقائدي" وأنّ العقائديين هم حفنة من التابعين الذين لا يمتلكون الفكر أو الثقافة أو القدرة على إثبات الذات بعيداً عن الإيديولوجيا. ولكنّ ممارساتهم هم في "بروباغندا الحروب" تري أنّهم ملتزمون أشدّ الالتزام بمخططات أجهزتهم الاستخبارية وبإنجاح هذه المخططات في شنّ العدوان والحروب، وأنّهم عقائديون جداً في دعم وتبنيّ كلّ ما يصدر عن مؤسساتهم حتى وإن كان حفنة من الأكاذيب هدفها طمس الحقائق وإشعال نار الحروب وتدمير البلدان وقتل الملايين من الناس الأبرياء. إذاً ما نحتاجه قبل كلّ شيء هو الثقة بالذات وبالأرض والتاريخ والأوطان وقراءة الآخر بأعين العارف والمتجذر في هويته وتاريخه، ومن ثمّ اختيار أدوات الردّ عليه بكفاءة واقتدار. هنا يصبح الصوت الصادر عن الحقّ مدوياً ويحوّل أكاذيبهم إلى سحابة صيف لا تترك أثراً على الإطلاق على مجريات الأمور. أيّ أنّ ما نحتاجه قبل كلّ شيء اليوم هو وقفة صادقة مع الذات قادرة على مقاومة الآخر بأدواته ذاتها وكسب المعركة لصالح القضايا الوطنية والمصيرية من خلال مناهج تربوية وتحصين ثقافي هادف ومستمر.