يرتفع الصليب في الأحد الثالث مِن الصوم والذي هو أحد السجود للصليب المقدّس، ليرتفع الصليب في وسط حياتنا.
خدمة هذا الأحد تترجم عمق اللاهوت المرتبط بالصليب، إذ يحمل الكاهن فوق رأسه صليباً على طبق مزيّن بالزهور، ويطوف به وسط الكنيسة، ويُرتَّل "لصليبك يا سيّدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجّد"، وذلك بعد استرحام الله.
الترتيلة جليّة: الصليب مرتبط بالمصلوب وبقيامة هذا المصلوب. فمن أنت أيّها المصلوب؟ لماذا صُلبت؟ كيف يمكن لله المتجسد، الأقنوم الثاني، الابن غير المنفصل عن الآب والروح أن يُطعَن على الصليب بحربة؟ كيف للقوي الجبّار والخالق والقادر على كل شيء أن يُعلّق على خشبة عريانًا؟ وهل فرغت السماء بموته على الصليب؟ هل الله يموت؟ أليس الصليب ضعفًا وإهانةً واحتقار؟ هل هذا يليق بمن نعبد ونعظّم ونسجد أمامه؟ كيف يمكن أن ندعوه مخلّصًا وهو لم يخلّص نفسه؟ وأسئلة أخرى ما زالت تطرح إلى اليوم.
لقد صدقت يا بولس: "نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!"(١كورنثوس ٢٣:١).
سأبدأ مِن النهاية لأرجع إلى البداية، علمًا أن ما ظنّه اليهود نهاية كان في الحقيقة ظفر وقيامة. فقبل أن يسلم يسوع الروح صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: "إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"(متى٢٧:٤٦). هنا لبّ الموضوع والجوهر. إذ مباشرة "انْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ، وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ." فهل لو كان رجلًا عاديًّا حصل كل هذا؟ بالطبع لا. وهل كان قائد المئة ليشهد أن المصلوب هو ابن الله لو لم يشاهد أمورًا فوق الطبيعة؟ بالتأكيد لا. فما حصل هنا كلّ الخلاص. الحجاب الذي كان يفصل بين القدس وقدس الأقداس يعلن بانشقاقه إلغاء المسافات بين الأرض والسماء، إذ باتت السماء مفتوحة للبشر لأنّ الذي صُلِبَ أتى من السماء ليرفعنا إلى السماء. وتفتّح القبور وقيامة قديسين استباق للقيامة العامة. أمّا ما قاله الرب قبل موته بطبيعته البشريّة على الصليب، والذي يستند عليه البعض لينفوا ألوهة الابن الواحدة في الجوهر مع الآب، فهو التالي: كانت المزامير عند اليهود معروفة ببداياتها، وكان كبير الشيوخ عندهم يتلو الآية الأولى منه ليكمل الكهنة الباقي. و"«إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» هي بداية المزمور الثاني والعشرون، وهذا المزمور الذي هو قبل تجسّد المسيح يصف بدقة صلب المسيح. "ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، ويَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ."
إذًا، ما كان يقوله المسيح ليس تخليًّا أو تركًا، بل تأكيدًا أن كل النبوءات تحققت به لأنّه وحده متمّمها.
وكان يقول لكهنة اليهود: أنظروا بعيونكم ما تصلّونه، ها هو المسيح المنتظر والمخلّص أمامكم، وعوض أن تؤمنوا به تصلبونه.
لم تفهموا لأنّكم تريدون إلهًا ضيّقًا خاصًا بكم يرفعكم فوق كل الشعوب. لم تفقهوا لأنّكم لا تريدون بلوغ قمّة المحبّة التي لا تعرف الحدود الدنيويّة وتتخطّى كل المسافات والمعايير. فما يبدو احتقارًا هو فداءً، وما يبدو ضعفًا هو قوّةً وبذلًا للذات.
فالصليب سلّمًا إلهيًّا يرفعنا من الأرض إلى السماء، ويبقى عثرةً وجهالةً لمن يريد إلهًا يبطش الإنسان ولا يرحمه ولا يعتبره ابنًا له.