التهى اللبنانيون خلال اليومين الماضيين بقضية "جدلية" جديدة تمثّلت في ملاحقة النائب البطريركي الماروني على القدس والأراضي الفلسطينية وراعي أبرشية حيفا للموارنة المطران موسى الحاج، خصوصًا بعدما اعتبرت بكركي ما حصل "رسالة" لها، بل "استهدافًا مباشرًا" لدورها الوطني والسياسيّ، ما أطلق موجة "تضامن" واسعة معها شملت كلّ الأطياف.
لكن، وكما في كلّ ملف، انقسم اللبنانيون في "مقاربتهم" لهذه القضية، فثمّة من وضعها في سياق سياسي قد يكون أكبر منها، وثمّة من اعتبرها ردًا على المواقف الأخيرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي، وثمّة من لجأ إلى أسلوب "الاتهامات السياسية" لاستخلاص العِبَر، وثمّة في المقابل، من استغرب "الضجّة المفتعلة"، ودعا إلى ترك التحقيق يأخذ مجراه القانونيّ.
جاءت هذه القضية لتتصدّر الاهتمامات والأجندات، وكأنّ هناك من "يفتعل" الأزمات بين الفينة والأخرى، من أجل "إلهاء" اللبنانيين عن استحقاقاتهم الداهمة والمنسيّة على ما يبدو، فالحكومة "مغيّبة" بل "معلّقة" على تفصيل "بروتوكولي" بلا قيمة، كما يقول البعض، والرئاسة التي قيل إنّها باتت "الأولوية" وُضِعت "في الثلاجة"، حتى يحين "أوانها" وتنضج "معطياتها".
ووسط كلّ ذلك، جاء "تبشير" رئيس حكومة تصريف الأعمال ورئيس الحكومة المكلف في آنٍ واحدٍ، نجيب ميقاتي، للبنانيين بـ"العصفورية"، شبيهًا بذلك الذي أطلقه رئيس الجمهورية ميشال عون قبل أشهر بـ"جهنّم"، ولو على طريقة "الدندنة"، ما أضفى عليه بعدًا جماليًا وفنيًا، ليطلق "السباق" على ما يبدو، فبين العصفورية وجهنّم، من الذي سيسبق؟!.
في موضوع الحكومة، يبدو واضحًا أنّ "لا جديد" على خطّ مشاورات تأليفها رغم كلّ ما يُحكى ويُقال خلافًا لذلك، بل ثمّة من يؤكد أنّ القرار "مُتَّخَذ" على أعلى المستويات بأنّ "لا حكومة" ستولد في الفترة المتبقية من "العهد"، علمًا أنّ الوقت "يضيق" أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، وثمّة من يقول إنّ الحكومة إذا وُلِدت اليوم، فهي لن تحصل أساسًا على "ثقة" البرلمان، قبل أن يحين موعد الانتخابات الرئاسية، علمًا أنّها تصبح مستقيلة حكمًا بمجرد انتخاب رئيس جديد.
ومع أنّ هناك من يصرّ على وجوب إنجاز تشكيل حكومة رغم ذلك، تحسّبًا لـ"شبح الفراغ" الآتي، خصوصًا في ظلّ "الجدل" القائم حول مدى دستوريّة تولّي حكومة تصريف أعمال لصلاحيات رئيس الجمهورية، وحدود الصلاحيات الممنوحة لها في مثل هذه الحالة، فإنّ الخلاف "المستحكم" بين الطرفين، ولا سيما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف، ورفض أيّ منهما تقديم أيّ تنازلات، لا يوحي بأنّ هناك من يريد فعلاً تشكيل الحكومة.
ولعلّ التفصيل "البروتوكولي" الذي يتذرّع به الجميع لتبرير "التقاعس" عن مواصلة النقاش بالحدّ الأدنى، بالمسودّة التي قدّمها ميقاتي وملاحظات عون عليها، خير دليل على "عمق" الأزمة، فالمقرّبون من رئيس الجمهورية يقولون إنّ الأخير ينتظر اتصالاً من ميقاتي يسبق زيارته المفترضة إلى القصر، في حين يتمسّك الأخير بمقولة "سنعود بعد قليل" التي قيلت له حين طلبًا موعدًا قبل أسابيع، ويقول إنّه لا يزال ينتظر الردّ الذي لا يبدو أنّه سيأتي.
لكنّ هذا التفصيل البروتوكولية، على "سطحيّته الظاهرة"، إن جاز التعبير، يخفي خلفه خلافًا "عميقًا" بين الجانبين، حيث يقول فريق ميقاتي إنّ رئيس الجمهورية، ومن خلفه الوزير السابق جبران باسيل، يريدان فرض الشروط عليه، في حين يعتبر فريق عون أنّ الأخير "يستقوي" بامتلاكه "منصبي" رئيس الحكومة المكلف ورئيس حكومة تصريف الأعمال، ولذلك فهو يرفض أن يكون "مَرِنًا"، ويحاول أن "يفرض" ما يريد من شروط على رئيس الجمهورية.
بين هذا وذاك، اعتقد كثيرون أنّ "الحلّ الأمثل" سيكون بإنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها، تفاديًا لـ"سيناريو" سابقة تولّي حكومة تصريف الأعمال، ذات الصلاحيات الضيّقة أساسًا، صلاحيات الرئيس الواسعة، مع ما قد يحيط بها من "سيناريوهات" يجتهد البعض في "ابتداعها"، فتحوّل الاهتمام إلى الاستحقاق المرتقب، تزامنًا مع التسريبات حول "نيّة" رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة فعليًا إلى جلسة لانتخاب رئيس جديد مطلع شهر أيلول، ولا سيما أنّ الدستور يفرض انكباب البرلمان على هذه المهمة خلال الشهرين الأخيرين من الولاية الرئاسية.
لكن، في ملف الانتخابات الرئاسية، لا يبدو أيضًا أنّ دخانًا أبيض سيتصاعد في وقت قريب، فهناك من يجزم بأنّ "سيناريو الفراغ" يجب أن يسبق أيّ "مفاوضات" حول اسم الرئيس العتيد، وهو ما يعزّز مبدأ رفض معظم القوى السياسية البحث بأسماء المرشحين المحتملين، بذريعة أنّ "أوان الانتخابات لم يحِن بعد"، وبينهم من يبدو أكثر "صراحة" بالحديث عن ظروف خارجية، إقليمية تحديدًا، لا بدّ من مراعاتها في الاستحقاق الرئاسي، وهي لم تنضج بعد.
وفي وقت يبدو أنّ رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية متمسّك بترشيحه، وسيبدأ قريبًا جدًا جولة سياسية على مختلف الأفرقاء للتسويق لنفسه، كمرشح غير حيادي أو رمادي ولكن منفتح على الجميع، لا يبدو أنّ "ظروف" انتخابه قد نضجت، حتى بين حلفائه، فـ"حزب الله" لم يعطِ بعد كلمته الأخيرة في الملف، فيما حليف الأخير، رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل لا يبدو مستعدًا لدعمه حتى الآن، رغم الأجواء "المغايرة" التي سُرّبت في الآونة الأخيرة.
أما على خط "التسوية"، فمن الواضح أنّ محرّكاتها لم تنطلق حتى الآن، في انتظار الظروف التي يمكن أن تتحكّم بها، والتي قد تكون "لاحقة" لتاريخ الفراغ، علمًا أنّ هناك من "امتعض" من طرح رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع لاسم قائد الجيش جوزيف عون في هذا التوقيت، بل من وضعه في سياق "التشويش" على أي تسوية يمكن أن تفضي إلى انتخابه في نهاية المطاف، ولو أنّ هناك أسماء أخرى مطروحة أيضًا في الكواليس السياسية.
هكذا، يبدو السباق "محتدمًا" بين "جهنّم" و"العصفورية" على استقبال اللبنانيين، الذين ربما ينقسمون فيما بين الوجهتين، تبعًا لأهوائهم السياسية، باعتبار أنّهم ما اعتادوا على الاتفاق على "وجهة واحدة"، "سباق" يبدو بعض المسؤولين "غير مكترثين" له، بل يحاولون "الاستظراف" في الإشارة إليه، فيما المطلوب منهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم كاملة، لتفادي الوصول إلى هذا الدرك، والانكباب على إنجاز كل الاستحقاقات في مواعيدها الدستورية!.