يضعنا أحد القدِّيسة مريم المِصريَّة في مواجهة مع ذاتنا، ويسألنا بشكل حازم جدًّا: «هل حقًّا تُبتُم؟».
يشكِّل هذا الأحد الخامس مِن الصوم الأربعينيِّ المقدَّس مراجعة أساسيَّة في علاقتنا مع الله، وذلك قبل أن نتابع سيرنا مع الربِّ ونصعد معه إلى أورشليم، ومن ثمَّ إلى الصليب فالقيامة المجيدة.
مِن أيقونات هذا الأحد الرائعة، الأيقونة الَّتي نشاهد فيها القدِّيسة مريم المِصريَّة واقفة أمام الكاهن زوسيما حاملًا بيده الكأس المقدَّسة ويناولها القدسات، أي جسد ودم الربِّ الكريمين.
ما تُظهره الأيقونة هنا هو تمامًا ما يجب أن نكون عليه. مريم تلك الفتاة الَّتي عشقت الزنى منذ صباها وتآلفت معه واحترفته، هي الآن خليقة جديدة بالمسيح تآلفت مع باريها واحترفت الصلاة القلبيَّة، فهي تقف بكلِّ وقار وخشوع، بعد أن أماتت إنسانها العتيق إلى غير رجعة، تقف بشوق لا يوصف بعد 45 سنة من الجهاد والصلاة، تفتح لا فمها فحسب، بل عمق أعماق قلبها لتتَّحد بالمسيح.
صحيح أنَّنا نراها في الأيقونة في لباس مهترئ، ولكنَّها في الحقيقة لابسة أبهى ما يمكن للإنسان أن يلبسه، ألا وهو لباس التوبة الحقَّة، المسيح القائم من بين الأموات. إذ كلُّ إنسان يتوب عن خطاياه، يقوم من بين الأموات، لأنَّ هذه هي القيامة: قيامتنا نحن مع القائم أبدًا.
سنين طوال قضتها مريم في صحراء قاحلة تحت الشمس الحارقة كأنَّها في جهنَّم، لتتوِّج جهادها بالمناولة المقدَّسة، وتنتقل إلى الحياة الأبديَّة تاركة التراب للتراب، وترجع روحها إلى خالقها.
فقد سمح الربُّ بأن ترقد المصريَّة بعد تناولها القدسات، ليتمَّ اللقاء الكامل، لقاء العاشق بمعشوقه، أي لقاء القدِّيسة بمخلِّصها.
القدِّيسة مريم المصريَّة هي قصَّة عشق وشفاء تحرق الخطايا مهما كانت كبيرة، هذا إذا تبنا توبة صادقة، وتلهب القلب بالنار الإلهيَّة المطهِّرة والمنقِّية والمقدِّسة.
لهيب الصحراء الجافُّ الَّذي نحت جسدها النحيل طوال السنوات الَّتي قضتها هناك وغيَّر لون بشرتها، تحوَّل بنعمة القدُّوس إلى ينبوع ماء لا ينضب، يسقي كلَّ مؤمن يبكي على خطاياه، ويروي ظمأ عطشه إلى الولادة الجديدة بالروح القدس.
هذه القدِّيسة العظيمة تجعلنا من جهة أولى نرتجف ونحن نتقدَّم إلى القدسات، ومن جهة ثانية نرتكض فرحًا لتناوُلنا القدسات. نرتجف إذا كنَّا غير تائبين، ونهلِّل إذا كنَّا حقًّا تائبين.
فلحظة المناولة هي عبور ملكوتيٌّ، إذ بعدها هناك الملكوت ولا شيء آخر. طبعًا هي مرتبطة أوَّلًا بنا، وبشوقنا ورغبتنا وتواضعنا وجهادنا. فهي ليست دواء سحريًّا تعمل رغمًا عنَّا بل هي الدخول إلى الخدر إذا نحن أردنا وعملنا لتحقيق ذلك.
بالتأكيد نحن نعي تمام اليقين ما نرتِّله في صلاة الختن في الأيَّام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم: «إنَّني أشاهد خدرك مزيَّنًا يا مخلِّصي، ولست أمتلك لباسًا للدخول إليه، فأبهِج حُلَّة نفسي، يا مانح النور وخلِّصني».
هذا ما نسمِّيه العبور من الموت إلى الحياة. ولكن حذار أن نتقدَّم إليه بوقاحة عدم التوبة، لأنَّها جسارة ما بعدها جسارة، ودينونة ما بعدها دينونة.
بالعودة إلى الأيقونة، فهذا المشهد الثالوثيُّ الرائع: القدِّيسة مريم المِصريَّة والكاهن والقدسات، هو مشهد يشتهي الربُّ رؤيته مع كلِّ واحد منَّا في كلِّ قدَّاس إلهيٍّ. الخلفية النورانية في الأيقونة تشير إلى الملكوت الصافي الذي نلتمسه منذ الآن إذا أحسنّا الجهاد، أي إفراغ الذات للأمتلاء من النور الإلهيّ.
فكما هجرت قدِّيستنا الخطيئة، هكذا يريدنا الربُّ أن نهجرها أيضًا. وكما جاهدت مريم ضدَّ الفجور، أيضًا يريدنا الربُّ أن نجاهد. والفجور على أنواع، فهو ليس فقط فجور الجسد، إذ للانحراف ألف لون ولون، في حين أنَّ للتوبة لونًا واحدًا.
مريم جاهدت ووجدت. وهي تدعونا لنحوِّل عشقنا للخطايا إلى عشق للفضائل الإلهيَّة.
حياتها باتت أيقونة قبل أن تُكتب في أيقونة. فهي تعلِّمنا أن نكتشف الحقيقة الأولى والثابتة، والَّتي لم ولن تتغيَّر لأنَّها إلهيَّة، وهي أن نكون قولًا وفعلًا مع الربِّ يسوع المسيح.
فالربُّ لم يأت إلى دنيانا ليقول لنا فقط بأنَّه ابن الله الحيِّ، بل تجسَّد ليقول لنا بأنَّنا أبناء الله بالتبنِّي، وروحه القدُّوس فينا، ولكي نقوم ونصعد معه إلى السموات.
فلنضع نصب أعيُننا أيقونة القدِّيسة مريم المصريَّة البهيَّة، هذه النافذة إلى الملكوت، ونرتِّل طروباريَّتها الَّتي تقول: «بكِ حُفِظَتِ الصورةُ بدقَّة أيَّتها الأمُّ مريم؛ لأنَّكِ حمَلتِ الصليبَ وتبِعْتِ المسيح، وعَمِلتِ وعلَّمتِ أن يُتغاضى عن الجسَدِ لأنَّه يزول، ويُهتَمَّ بأمورِ النفسِ غيرِ المائتة. لذلك أيَّتها البارَّة تَبتهِجُ روحُكِ مع الملائكة».
كلمات الطروباريَّة تلخِّص التدبير الخلاصيَّ الإلهيَّ للبشر، فالله خلقنا أيقونات على صورته، ونحقِّقها ونحفظها بالتوبة، وهذا يتمُّ حصرًا بالموت عن الذات أوَّلًا أي الصليب، ونعمل عملًا صادقًا في مراجعة ذاتنا على ضوء الإنجيل، ونعرف أنَّ حياتنا في الجسد هي فرصة قداسة أبديَّة في الروح، والسماء كلُّها تفرح مع الملائكة والقدِّيسين، واثقين بأنَّنا مهما توسَّخنا بالرذيلة والخطيئة، يمكننا أن نتنقَّى من جديد، وأحبُّ أمر على قلب الربِّ عودتنا إليه لأنَّها عودة الابن لأبيه.
إلى الربِّ نطلب.