يأتي عيد العنصرة، أي حلول الروح القدس على التلاميذ، بعد خمسين يومًا من الفصح. من هنا، فإنَّ هذه الفترة الَّتي تمتدُّ خمسين يومًا، من أحد القيامة إلى الأحد الَّذي يلي العنصرة، أي أحد جميع القدِّيسين، عُرِفت بالبندكستاريون، أي الزمن الخمسينيِّ باليونانيَّة.
تخلَّل هذه الفترة عيدُ الصعود الإلهيِّ الذي يأتي بعد أربعين يومًا من الفصح، وسبتُ الراقدين الذي يسبق أحد العنصرة، ونعيِّد للروح القدس في اليوم التالي للعنصرة.
يدعونا هذا الزمن إلى التأمُّل بالتدبير الإلهيِّ الذي تمَّمه الربُّ يسوع المسيح من أجلنا:
فهو أقامنا معه من بين الأموات، وأصعدنا معه إلى السموات، وراقدونا هم أحياء فيه، وأرسل إلينا الروح القدس الذي يدعونا لنمتلئ منه ونكون قدِّيسين، فهذا هو هدف وجودنا في هذه الحياة.
إذا تأمَّلنا في أيقونة عيد العنصرة، وهي الأيقونة الرسميَّة للعيد لوجدنا ما يلي:
1- المكان الفارغ في الوسط بين القدِّيسيْن الأوَّليْن بطرس وبولس، هو مكان الربِّ يسوع المسيح الحاضر دائمًا معنا، وهو رأس الكنيسة ومؤسِّسها وصخرتها. وسنعود نراه في أيقونة المجيء الثاني وحوله جميع القدِّيسين.
هناك تصوير استثنائيٌّ للعنصرة يعود إلى العام 586 م في إنجيل رابولا السريانيِّ، نشاهد فيه والدة الإله واقفة وسط التلاميذ، وحول رؤوس الجميع هالة القداسة، وفوقها لهيب نار، إشارةً إلى حلول الروح القدس عليهم كما أتى في النصِّ الإنجيليِّ: «ظهرت لهم أَلسِنةٌ منقسمة كأنَّها من نار» (أع 2: 3). وفي أعلى الأيقونة شكل حمامة ذات طابع محلِّيٍّ، وطريقة انحدارها ووجهتها نحو المسيح شبيهة بعض الشيء بالفسيفساء الخاصَّة بالظهور الإلهيِّ (معموديَّة الربِّ) الموجودة في رافينا في إيطاليا، والتي تعود إلى القرن الخامس الميلاديّ. يذكر التاريخ الكنسيُّ أنَّ الأسقف الأوَّل على رافينا هو القدِّيس أبوليناريوس تلميذ بطرس الرسول، وهو من أنطاكية. وقد بقيت المنطقة مقصدًا للأنطاكيِّين. فلا عجب أن يكون الفنُّ فيها بتأثير أنطاكيٍّ. كما يلاحظ أنَّ الحمامة تشبه الحمامة الموجودة في أيقونة الظهور الإلهيِّ المحفوظة في دير سيِّدة كفتون – الكورة في لبنان والتي تعود إلى القرن الحادي عشر تقريبًا. كما يوجد تصوير للظهور الإلهيِّ في منمنمة[1] أرمنيَّة وآخر في مخطوطة فلورنسا Codex Florence[2]. يعود التصويران إلى القرن السادس الميلاديِّ، وشكل الحمامة فيهما مشابه لشكله عند رابولا ورافينا. هذا كلُّه يشير إلى وحدة الإيمان الجامع وترجمته فنِّيًّا منذ البداية.
لا بدَّ هنا من الوقوف عند التشبيه في الوصف، فنلاحظ العبارتين: «كأنَّها من نار» في الآية أعلاه عن الروح القدس، و«فرأى روحَ الله نازلًا مثل حمامة» (متَّى 3: 16) في معموديَّة يسوع. إذًا هو ليس نارًا ولا حمامة، والتشبيه والاستعارة هما محاولة كتابيَّة لوصف شيء لا يوصف. فالروح القدس هو أحد الأقانيم الثلاثة للثالوث القدُّوس، وجميعهم واحد في الجوهر الإلهيّ.
صحيح أنَّ هناك إشارات إلى الروح القدس وثماره في الكتاب المقدَّس، مثلًا نجد عبارة: «وروح الله يرفُّ على وجه المياه» (تكوين 1: 2)، أو حمامة نوح، إلَّا أنَّ تصوير الروح القدس قانونيًّا كحمامة في الفنِّ الإيقونغرافيِّ محصور في أيقونة الظهور الإلهيِّ.
2- طريقة جلوس التلاميذ: تظهر الأيقونة التلاميذ جالسين في هدوء وسكينة ولا تظهر أيَّ عاصفة أو ما شابه، وذلك لأنَّها تركِّز على السكون والسلام والثبات كثمار الروح القدس. كذلك هم يجلسون بشكل نصف دائريّ، وهذا يدعى Bema – Bima. فنجد قديمًا عند الإغريق هذه التسمية وتعني المنبر العالي، وكان يجلس عليه متكلِّمون يخطبون في الحاضرين، وقضاة في المحكمة، فيصير كمنصَّة محكمة لإصدار حكم مبرم.
هذا الشكل أيضًا شاع في منطقتنا. ولكن ما يهمُّنا هو أنَّ الروح القدس سيف قاطع لا يعرف المواربة: نعم نعم أو لا لا. وحكمه مبرم لأنَّه صادق. فللربِّ وحده الدينونة ولا يحقُّ لأحد أن يحكم على أخيه: «وأمَّا أنت، فلماذا تدين أخاك؟ أو أنت أيضًا، لماذا تزدري بأخيك؟ لأنَّنا جميعًا سوف نقف أمام كرسيِّ المسيح» (رومية 14: 10).
3- الملك في الأسفل: إنَّه العالَم الساقط الذي كان ينتظر نور المسيح ليقوم. الخطيئة أهلكته، فتاجه مزيَّف لأنَّه تاج الخطيئة التي تسود على العالم من دون المسيح. لباسه الأحمر يشير إلى سفك الدماء وقرابين الشيطان. إلَّا أنَّه مع مجيء المسيح يخرج من ظلمته التي صارت خلفه، حاملًا لفيفة فيها اثنا عشر إنجيلًا إشارة إلى التلاميذ الاثني عشر.
صحيح أنَّ المجتمعين في وقت العنصرة كانوا حوالى 120 شخصًا، إلَّا أنَّ الأيقونة تظهر الرسل فقط، إشارة إلى رسالتهم الكنسيَّة التأسيسيَّة، فهم حملوا نور الإنجيل إلى العالم أجمع.
هناك أيقونات تظهر مدنًا تمثِّل الشعوب، كأيقونة العنصرة الموجودة في دير القدِّيسة كاترينا في سيناء.
خلاصةً، هناك لوحة[3] عاجيَّة من القرن الخامس الميلاديِّ تظهر الربَّ يسوع المسيح وسط التلاميذ في العنصرة. فكلمة عنصرة تعني المحفل أو الاجتماع. هذا ما نصبو إليه وهذا مقصد وجودنا: أن نكون في محفل المسيح ويكون المسيح في وسطنا وداخلنا دائمًا، والروح القدس يقودنا.
إلى الربِّ نطلب.
[1]. Miniature of the Echmiadzin Gospel. Sixth century. Institute of Ancient Manuscripts. Maternadaran, Yerevan, Armenia.
[2]. Miniature. Codex. 586. Laurentian Library, Florence, Italy. Fragment.
[3]. Collegium sacrum ivoire 5eme siecle musée Dijon.