صحيح أنّ العناوين العامة للخطاب الثالث لنائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، بدت مشابهة لعناوين الخطابين السابقين، بدءًا من رفع معنويات البيئة الحاضنة بعد الإحباط الذي أصابها نتيجة الضربات المتكرّرة، ولا سيما بعد اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله، وصولاً إلى التأكيد على استيعاب للحزب لما يصحّ وصفها بـ"الصدمة"، وبالتالي استعادته لعافيته، مع توفير البدائل، وبدائل البدائل، للقادة الذين تمّ اغتيالهم في الأسابيع الأخيرة.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ الخطاب بدا مختلفًا هذه المرّة، في الشكل كما في المضمون، فالارتباك الذي أحاط بالإطلالتين السابقتين قد انخفض نسبيًا، ولو أنّ المقارنة تبدو "ظالمة" مع السيد نصر الله الذي يملك ما يملك من الكاريزما وفنون الخطابة، كما أنّ الرسائل بدت هذه المرّة متقدّمة، ولو أنّ البعض خرج منها بانطباع أنّ الحزب لا يزال متمسّكًا بالترابط مع جبهة غزة، انطلاقًا من قول الشيخ قاسم مرّة أخرى، إنّ "لبنان لا يمكن فصله عن فلسطين".
إلا أنّ الكلمة حملت بين طيّاتها، رسائل من نوعٍ آخر، اختصرها حديث نائب الأمين العام لـ"حزب الله" عن "مرحلة جديدة"، في إشارة إلى الانتقال من عنوان "المساندة" الذي طبع المعركة منذ فتح الجبهة في الثامن من تشرين الأول 2023، إلى عنوان "المواجهة" الذي فرضه العدوان الإسرائيلي، وهو عنوان تفرّع عنه عنوان آخر، هو "إيلام العدوّ"، في "تكتيك" جديد يوحي "حزب الله" أنه سيرسم معالم المرحلة الجديدة، وربما يفضي إلى الحلّ.
لكن، بموازاة الرسائل التي يوجّهها "حزب الله"، والتي يُفهَم منها تخلّيه عن الضوابط والقيود التي كبّلته على مدى الأشهر الماضية، وربما تعميم نموذج عملية "بنيامينا" الأخيرة في حيفا، تستمرّ الضربات "المؤلمة" إسرائيليًا، وآخرها العدوان على النبطية، فضلاً عن تجدّد الغارات على الضاحية الجنوبية بعد توقف دام لأسابيع، فكيف ستنعكس معادلات "حزب الله" الجديدة على الأرض، وهل يمكن القول إنّ مقاربته للحرب قد تغيّرت فعلاً؟.
يقول العارفون إنّ الاستنتاج الأهمّ الذي يمكن فهمه من خطاب نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الثالث، هو أنّ الأخير لم يستوعب "صدمة الاغتيالات" فحسب، ولكنه استوعب أيضًا أنّه أصبح "في زمن الحرب"، علمًا أنّ الحزب تعرّض في المرحلة الأخيرة لانتقادات كثيرة، مردّها أنّه استمرّ بالتعامل مع العدوان حتى اللحظة الأخيرة، وكأنّه عبارة عن "ضربات موضعية"، لا أكثر ولا أقلّ، بل بقي مراهنًا على أنّ "الحرب الكبرى"، بمعناها الواسع، لن تقع.
ثمّة أسباب عدّة لمثل هذا الاعتقاد، من بينها أنّ الحزب كان يعتقد، ربما عن سوء تقدير، أنّ الحرب ليست خيارًا "جدّيًا" مطروحًا على الطاولة، وأنّ الأمور ستبقى مضبوطة بصورة أو بأخرى، باعتبار أنّ لا مصلحة لأحد بالانزلاق إلى الحرب في هذه المرحلة، حتى إنّه كان يعتقد أنّ إسرائيل حتى لو أرادت الحرب، إلا أنّها لن تبادر إليها، ولذلك فهو كان حريصًا على تفصيل ردوده على استفزازاتها واعتداءاتها، بما لا يعطيها "الذريعة" التي تنتظرها.
ثمّة من يقول إنّ الحزب لم يكن يريد الحرب أيضًا، ولو كان يردّد دائمًا أنّه جاهز ومستعدّ لها، علمًا أنّه كان يعتقد أنّ "قوة الردع" التي راكمها على مرّ السنوات، وتوّجها في الفترة الأخيرة بفيديوهات "الهدهد" وغيرها، كانت كفيلة بثني الإسرائيليين عن المضيّ في أيّ "مغامرة" كان يعتبر أنّها غير محسوبة، إلى أن بدأت الضربات تتوالى، مع مجزرة البيجر، ومن ثمّ أجهزة الاتصال، وصولاً إلى الاغتيالات النوعية وغير المسبوقة لقادته.
وعلى الرغم من قوة هذه الضربات، التي وصفها السيد حسن نصر الله بغير المسبوقة في تاريخ المقاومة، إلا أنّ العارفين يشيرون إلى أنّ الحزب بقي حتى لحظة اغتيال أمينه العام، وربما بعد ذلك، أسير مرحلة "الإسناد"، وفق قواعد الاشتباك التي رسمها لنفسه، ويبدو أنّه احتاج إلى وقتٍ غير قصير حتى يدرك أنّه أصبح في قلب معركة حقيقية ومفصلية، وربما وجودية، فُرِضت عليه، وبالتالي يعلن الانتقال إلى "مرحلة جديدة"، عنوانها مواجهة العدوان، لا إسناد غزة.
استنادًا إلى ما تقدّم، تُقرَأ من خطاب نائب الأمين العام لـ"حزب الله" مجموعة من الرسائل التي تندرج بمجملها في سياق "المواجهة" التي أعلنها عنوانًا للمرحلة، بما يختلف عن مرحلة "الإسناد"، الأمر الذي يتطلّب بطبيعة الحال مقاربات من نوعٍ آخر للحرب التي "فُرِضت" عليه، وسط تساؤلات عمّا إذا كان ذلك يعني عمليًا التخلّي بالفعل عن كل الضوابط والسقوف والقيود، كما لوّح السيد حسن نصر الله أكثر من مرّة في خطاباته الأخيرة.
في هذا السياق، يتحدّث العارفون عن سلسلة من الرسائل التي أراد "حزب الله" توجيهها عبر خطاب الشيخ قاسم، بينها بطبيعة الحال أنه استعاد عافيته وقوته إلى حدّ بعيد، رغم أنّ الضربات الإسرائيلية لم تقلّ وحشية ودموية، ولكن قبل ذلك، أنّ المعادلات كلها اختلفت بالنسبة إليه، وأنّ قواعد الاشتباك تغيّرت بالمُطلَق، إذ لم يعد المطلوب مجرّد الضرب من باب مسؤولية أخلاقية ما، ولا حتى الردع، بل التصدّي للعدوان بأتمّ معنى الكلمة.
ولعلّ حديث الشيخ قاسم في خطابه عن "إيلام العدو" يختصر المعادلة الجديدة التي يريدها الحزب للمرحلة، استنادًا ربما إلى تجربة عملية بنيامينا في حيفا، التي خلّفت العدد الأكبر من الإصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي، وكأنّه يقول إنّ هذه العملية لن تكون "يتيمة"، إذا تمادى الإسرائيليّ أكثر في اعتداءاته، ولا سيما أنّها أظهرت أنّ الحزب لا يزال يمتلك أوراق قوة بعكس ما يروّج له، سواء على المستوى العسكري، أو الاستخباري.
لا يعني ما تقدّم أنّ الحزب لم يعد "منفتحًا" على وقف إطلاق النار، وربما على الحلّ السياسي، ولكنه يسعى إلى القول وفق العارفين، إنّ "الاستسلام" لن يكون خياره، مهما علا الصراخ أو اشتدّت الضغوط، وربما أنّ الرهان على "عجزه وضعفه" لن يفيد، وهو سيواجه التعنّت الإسرائيلي والمجازر المستمرة، بتوسيع رقعة استهدافاته وتكثيفها، لإدراكه بأنّ هذه الطريقة قد تكون الوحيدة المُتاحَة للذهاب إلى طاولة المفاوضات، عاجلاً أم آجلاً.
هي مرحلة جديدة إذًا، تتطلّب معادلات مختلفة عمّا سبق. قد يرى البعض أنّ "حزب الله" وصل متأخّرًا إلى هذه القناعة، بعدما أخطأ التقدير أو ربما الرهانات، إلا أنّ الأكيد أنه يسعى لتكريس واقع "ردعي" من نوع آخر، وفق مبدأ "العين بالعين"، باعتبار أنّ كل الأراضي المحتلة "تحت مرمى النار"، ما قد يجهض "أهداف" الحرب الإسرائيلية، بإعادة مستوطني الشمال، واقع قد يجرّ الإسرائيلي إلى المفاوضات.. أو إلى المزيد من "الجنون"!.