مجدّدًا، تتلاحق التسريبات الإسرائيلية بشكل مكثّف حول "اتفاق" يمهّد لوقف إطلاق النار في لبنان، في سيناريو يتكرّر للمرة الثالثة بالحدّ الأدنى، وإن كان توقيته هو ما يميّزه هذه المرّة، بعد أيام فقط على فوز الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وضمان عودته إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل، بعدما اعتبر كثيرون أنّ عدم التأثير على الاستحقاق الانتخابي كان سبب "تعثّر" مهمّة المبعوث الأميركي آموس هوكستين الأخيرة.
وعلى الرغم من أنّ المسؤولين اللبنانيين المعنيّين نفوا أن يكون قد وردهم أيّ شيء فعليّ بشأن المفاوضات، بما في ذلك "حزب الله" الذي كرّر استعداده لحرب "استنزاف طويلة"، وحتى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي قال مقرّبون منه إنّ "لا ثقة بالعدوّ"، فإنّ الإعلام الإسرائيلي تولّى ضخّ الأجواء "الإيجابية"، وصولاً لحد نشر تفاصيل ما سمّاها "مسودّة الاتفاق"، بل إنّ بعض هذا الإعلام لم يتوانَ عن تحديد مواعيد لدخول الاتفاق حيّز التنفيذ.
لكن، بموازاة هذه التسريبات المكثّفة والتي قد تكون غير مفهومة في سياقها، كانت إسرائيل تستكمل مجازرها وانتهاكاتها على مختلف الجبهات، من الجنوب إلى البقاع مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت، ووصولاً إلى قضاء جبيل، الذي ارتكبت فيه مجزرة مروّعة يوم الأحد، ذهب ضحيتها أكثر من 20 شخصًا، من دون أن تتأثّر بالأجواء السياسية المستجدّة، بل إنّ "النقيض" هو الذي حصل، عبر رفع وتيرة الاستهداف، إن صحّ القول.
ولعلّ النقطة الفارقة وسط كلّ ذلك، تمثّلت في الحديث عن مصادقة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي على خطط توسيع العملية البرية في لبنان، بعدما انطلقت الأنباء عن التسوية من كون هذه العملية استنفدت أهدافها وأوشكت على النهاية، فكيف يُفهَم هذا "التضارب"، أو ربما "التناقض" في الأجواء التي يضخّها الإسرائيليون، وهل يمكن البناء عليها فعلاً للقول إنّ "الفرج قريب"، أم أنّها مجرّد "خدعة" أخرى تُضاف إلى سابقاتها؟!.
صحيح أنّ التجربة أثبتت أنّ الحديث الإسرائيلي المتكرّر عن المفاوضات قد لا يكون أكثر من خديعة، أو ربما مناورة، كما حصل مثلاً يوم اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، أو حتى خلال زيارة هوكستين الأخيرة إلى المنطقة، إلا أنّ العارفين يتحدّثون عن سلسلة مؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأنّ هذا الحديث ينطوي هذه المرّة على بعض "الجدّية"، وإن لم تكن قد تبلورت بصورة كاملة بعد، خلافًا لما يحاول البعض ترويجه.
من بين هذه المؤشّرات، الانطباع السائد بأنّ العدوان الإسرائيلي على لبنان "استنفد أهدافه" بصورة أو بأخرى، ليس بمعنى أنّه حقّقها، بدليل أنّ الهدف المُعلَن من العدوان وهو إعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم بأمان لا يزال متعذّرًا، في ظلّ استمرار الرشقات الصاروخية من جانب "حزب الله"، بل ارتفاع وتيرتها كمًّا ونوعًا، ولكن بمعنى أنه فَقَد الكثير من "الزخم" الذي طبع أيامه الأولى، حين امتلك الإسرائيلي عنصر المفاجأة والصدمة.
بمعنى آخر، فإنّ الضربات "النوعية" التي افتتحت بها إسرائيل حربها على لبنان، ابتداءً من مجزرتي البيجر وأجهزة الاتصال، وصولاً إلى الاغتيالات "الدقيقة"، التي استهدفت كبار قادة الحزب، وعلى رأسهم الأمين العام السيد حسن نصر الله ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، لم تعد بالزخم نفسه، لدرجة أنّ الكثير من الضربات الأخيرة بات مشكوكًا في "دقتها"، وكأنّ الهدف منها هو القتل ليس إلا، من باب إطالة أمد العدوان.
وإذا كان صحيحًا أنّ هناك المزيد من الأهداف التي تضعها إسرائيل في الاعتبار، من بينها الأمين العام الجديد للحزب الشيخ نعيم قاسم، ومسؤول العلاقات الإعلامية محمد عفيف، وغيرهما، إلا أنّ الواضح أنّ "حزب الله" الذي استوعب صدمة الاغتيالات السابقة، واستعاد جزءًا من عافيته، ولو نسبيًا، اتخذ إجراءاته الاحترازية، وعدّل على الأرجح كلّ الخطط التي كان معمولاً بها سابقًا، ما قد يكون صعّب المهمّة على إسرائيل، أو عقّدها بالحدّ الأدنى.
من هنا، يسود انطباع بأنّ إسرائيل قد تكون "جدّية" هذه المرّة في مسعاها للوصول إلى صفقة تحقّق لها ما لم تنجح في تحقيقه عسكريًا، ولا سيما لجهة إنهاء "التهديد الصاروخي" من جانب "حزب الله"، ولا سيما أنّها تعتقد أنّها يمكن أن تذهب إلى المفاوضات اليوم من منطلق "قوة"، وهو ما قد يتراجع نسبيًا كلما طال أمد العدوان، خصوصًا أنّ هناك من يعتقد أنّ قدرتها على فرض شروطها قد تنخفض إن واصل "حزب الله" عملياته.
لا يعني ما سبق أنّ فرضية "الخديعة" أو "المناورة" مُستبعَدة كليًا، بدليل أنّ إسرائيل تمارس "الازدواجية" بإبدائها الانفتاح على المفاوضات ورفع وتيرة المجازر والتهديدات في الوقت نفسه، وإن كان ذلك يصبّ في خانة تكتيك حربيّ تستخدمه، قوامه "المفاوضات تحت النار"، علمًا أنّ ثمّة من يعتقد أنّ أيّ اتفاق قد لا يدخل حيّز التنفيذ قبل استلام ترامب مقاليد الحكم مطلع العام المقبل، حتى لا يُنسَب الفضل فيه لإدارة الرئيس جو بايدن.
إلا أنّ هناك من يردّ على هذا الرأي، بالقول إنّ ترامب هو الذي أعطى "الضوء الأخضر" للمضيّ بالاتفاق، إذ يريد أن تكون الحرب قد انتهت قبل وصوله إلى البيت الأبيض، علمًا أنّ ثمّة اعتقادًا أنّ الأرضية التي تنطلق منها إسرائيل للاتفاق هي نفسها التي انتهت إليها جولة هوكستين الأخيرة، إلا أنّ إسرائيل رفضت التجاوب معها حينها حتى لا تقدّم "هدايا مجانية" لأحد، في حين أنّها "تحرّرت" اليوم من قيد التأثير على الانتخابات الأميركية.
ويعتقد العارفون أنّ "التصعيد" الإسرائيلي الموازي للحديث عن المفاوضات، عبر الحديث تارة عن توسيع العملية البرية وتعميقها، وطورًا عبر التهديد برفع سقف المعارك والعمليات، قد يكون هو الآخر جزءًا من "تكتيك المفاوضات"، إن صحّ القول، فإسرائيل تريد أن تقول إنّ البديل عن القبول بشروطها، قد يكون توسيعًا للحرب، وربما تعديلاً لبنك أهدافها، ما قد يفتح الباب أمام ضغط داخلي على "حزب الله" للخضوع في مكانٍ ما، إن صحّ القول.
لعلّ "الحذر" الذي يتعامل به لبنان الرسمي مع التسريبات الإسرائيلية "الإيجابية"، هو أفضل الممكن، فالنوم على "حرير" هذه الإيجابية غير المفهومة قد يكون بمثابة الوقوع في الفخّ مرة أخرى، مع ما قد يعقب ذلك من "خيبة" تسجَّل ضدّ لبنان في الحرب النفسية القائمة مع الجانب الإسرائيلي، من دون أن يعني ذلك عدم انفتاح لبنان على مفاوضات "جدّية"، سبق أن قال "حزب الله" نفسه إنه لا يمانعها، ولو أنّه يرفض الظهور بمظهر من يستجديها!.