تنطلق طاولة الحوار يوم الأربعاء في ظلّ مشهدين متداخلين تتقاطع مفرداتهما حتى الوحدانيّة. المشهد الأوّل داخليّ جزء منه أخذ إلى سياق تظاهرة "التيار الوطنيّ الحرّ" بأبعادها وتجليّاتها، وجزء آخر متحرّك بخصوصيّة طارئة تقودها مجموعات المجتمع المدنيّ، ولو على تمزّق بليغ، وبعض من حراكها أملي من الخارج بواسطة تلك العناصر وفق خطّة ممنهجة قد تؤول بتراكماتها في ظلّ دائرة الخصوصيّة الطارئة إلى مواجهة محدّدة بآفاقها السياسيّة-الاجتماعيّة، ستجتمع عناوينها، وتحتشد عباراتها، وتتكثّف معاييرها، لتبلغ نحو رؤية جديدة للنظام السياسيّ الداخليّ، جوهرها الأساسيّ قانون انتخابات وتاليًا انتخاب رئيس للجمهوريّة يملك الصفة والقدرة على نحت حكم قائم على الإصلاح في بنية الدولة اللبنانيّة.
أمّا المشهد الثاني فخارجيّ وهو سوريّ على وجه التحديد. ما يحدث على أرضها لا يمكن على الإطلاق الحياد عنه، إذ هو مرتبط برؤى بدأت تنبلج شيئًا فشيئًا، وتظهر معانيها بسلوكيّات روسيّة محتضنة للنظام في سوريا كجوهر وجوديّ أو حجر اساس لحلّ سياسيّ، متأصّل في العمق السياسيّ منذ الرئيس حافظ الأسد. وتظهر بعض المعلومات بأنّ السلوكيات الروسيّة باندراجها العسكريّ وانبساطها الأمنيّ، ليست منفصلة على الإطلاق عن القراءة الأميركيّة، وإن حاولت الإدارة الأميركيّة سواءً مع رئيسها باراك أوباما أو وزير خارجيّتها جون كيري التمظهر بالقلق. الدخول الروسيّ بحجمه النخبويّ-العسكريّ في العمق السوريّ، تمّ بتنسيق واضح مع الأميركيين في ظلّ الضغط المشترك بينهما لإنجاح الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ. وتكشف معلومات أخرى بأنّ الطرفين الكبيرين متفقان على مسألة القضاء على الإرهاب التكفيريّ، ولكنهما اختلفا على مسألة طول الحرب على الإرهاب. غير أنّ هذا الاختلاف التكتيكيّ بدأ ينحصر لأسباب عديدة أولها أن الروس أفهموا الأميركيين بأن طول المسألة سيعزّز قدرات "داعش" على القتال، والتمدّد بتلك القدرات وخصوصيّتها الإيديولوجيّة المؤثرة على القتال نحو روسيا وأوروبا بحال لم يتم القضاء على تلك الظاهرة بصورة جذريّة، وثانيها بأن إطالة الحرب وعدم تجفيف ينابيع المال والسلاح، سيسمحان لـ"داعش" بالتمدّد اقتصاديًّا ونفطيًّا لفرض شروطها وتشكلّ، تاليًا، مدى خطرًا على الأمن الاقتصادي والنفطيّ، ولن يفيد العالم منه بشيء، بقدر ما سيجد نفسه متلاشيًا ومجوّفًا.
ما علاقة المشهدين الداخليّ والخارجيّ ببعضهما البعض فيما الأحزاب السياسيّة ممثّلة برؤساء الكتل ما عدا كتلة "القوات اللبنانيّة"، متجهة إلى حوار برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي؟
بادئ ذي بدء، يجب الإقرار بأنّ السلطة السياسيّة بمعنىاها الشرعيّ، وكوجه للنظام السياسيّ قد تلاشت بل تكاد تكون قد سقطت في وحول كثيرة تراكمت حتى انفجر الموقف برمّته مع تكدّس أكوام النفايات في العاصمة بيروت ومعظم القرى والمدن اللبنانيّة. وثبت بوضوح بأنّ عملية إقفال مطمر الناعمة وتكدّس النفايات لم تأت من باب الصدفة او العجز، بل من خطّة تنتمي بجذورها وأصولها إلى مدى التغييرات الجذريّة في المنطقة لتقول قولاً جديدًا على مستوى الحلول السياسيّة من سوريا إلى لبنان. هذه المسألة وما تبعها لاحقًا من حراك شعبيّ لم تحسب الطبقة السياسيّة في الأساس حسابًا له، أخذت لبنان إلى صدام سياسيّ جديد، بل إلى حرب تداخل بها الحراك تداخلاً كبيرًا. وتقرأ بعض الأوساط السياسيّة بأنّ حراك المجتمع المدنيّ في الشارع قد ضعف بالكليّة نتيجة الانقسام الحالّ به واندراجه في صراع المحاور، ما بين قطر من جهة والسعوديّة من جهة ثانية، والتباين الأميركيّ-السعوديّ... وارتباط هذا الصراع بمن يمكن أن يملك الزعامة في المدى الإسلامي والعربيّ، وفي حسم الصراع في سوريا.
يبقى أنّ الحراك الشعبيّ الأبرز، والمؤثّر بكل ثقله السياسيّ في الشارع حراك "التيار الوطنيّ الحرّ"، فقد أظهر التيار قدرة فائقة على تحشيد الناس بعد تحفيزهم بالأسباب الموجبة الداعية والمؤهّلة إلى هذا الحراك. ولذلك، فهو سيدخل إلى طاولة الحوار بالإزاء مع كلّ من سيجلس حولها، بحجمه الكبير الذي تجلّى في ساحة الشهداء، ومن سيتشارك معه الحوار يدرك ذلك، فكيف إذا ما انصهر هذا الحراك باستقلاله الذاتيّ في مدى التحالف الاستراتيجيّ مع "حزب الله"، وانصبّ في تحديد الرؤى السياسيّة المرتبطة بالنظام وديمومته وتطويره وفقًا للمطلبين المذكورين من قبل "التيار الوطنيّ الحرّ"، وهما انتخاب رئيس جمهورية من الشعب مباشرة وبلا وسيط، وقانون انتخابات عصري يؤمّن العدالة والمناصفة الفعليّة بين المسيحيين والمسلمين.
وحدانيّة المشهدين الداخليّ بحراكه وتراكماته، والخارجيّ باصطفافاته الاستراتيجيّة الدقيقة يترجمان ما بين سوريا ولبنان، كل بخصوصيّته بعبارتين دستور جديد في سوريا وفي لبنان طائف مستوحى من الطائف السابق، ولكنّه محدّث ومتجدّد بتعديلات ستنسكب في كثير من بنوده وهي المعتبرة ميثاقيّة، وفقًا لقاعدة بأنّه لا توجد ولا يجب أن توجد طائفة سيّدة محتكرة للسلطة سياسيًّا، وأخرى مسودة تتلقّى ما يرمى لها من فتات. ويتوحّد المشهدان بحكومة وحدة وطنيّة في سوريا، يتشارك فيها الجميع مع انتخابات نيابيّة للجميع، وهذا مُلِحّ للبنان بعد إقرار هذين المطلبين أن تتألّف حكومة وحدة وطنيّة برئاسة من يمثّل بيئته تمثيلاً واقعيًّا وحقيقيًّا. يشبه وضع المسيحيين في تلك المعادلة عرضًا مسرحيًّا للأخوين الرحباني وفيه يمثّل الراحل فيليمون وهبه دور مهندس الطرقات (سبع)، والراحل الآخر منصور الرحبانيّ، (مخوّل) رفيقه البسيط. يظهر فيليمون في هذا المشهد يخطّط لطريق يقول: تستفيد من الطرقات بنت خالتي وبنت عمتي والبنت يللي بدها تصير زوجتي... فيسأله مخّول (منصور)، وأنا؟ فيجيبه فيليمون قبل أن يغادر إذا بقي حجار منشوف. هكذا تمّ التعاطي مع المسيحيين في لبنان لكنّ حجم التعاضد مع التيار الوطنيّ سيتيح له بالقول: الطرقات للجميع وليس "إذا بقي حجار منشوف".