لم تأت رسالة سيناتور فرجينيا ريتشارد بلاك الى الرئيس السوري بشار الاسد من باب الصدفة او لحجز المُرسل مكاناً مرموقاً له في دمشق، ولا لحسابات تجارية او صفقات مالية ولا لجذب السياح السوريين الى تلك الولاية الاميركية. أتت رسالة بلاك لتعبر عن رأي عام دولي بدأ يفهم أبعاد الحرب في سوريا.
بالتفصيل عبّر السيناتور المذكور عن فرحته لانتصار الجيش السوري في معركة مطار كويرس، وسروره لوجود حرب روسية ضد الارهاب في سوريا. ان يتوقف سيناتور عند تلك التفاصيل، هذا يعني الاهتمام البالغ المطلق.
ابرز بلاك إشارات مهمة بقوله: "قبل بداية الحرب كان لدى السوريين أكبر حرية معتقد ومساواة للمرأة من أي شعب عربي... الكثير من الأميركيين مندهشون لمعرفة أن الدستور السوري ينص على حرية الانتخابات وحرية المعتقد وحقوق المرأة وحكم القانون... وقبل توجيه الانتقاد لسوريا، على الولايات المتحدة أن تصرّ أولاً على أن يمنح حلفاؤنا الأردن والسعودية وقطر والامارات العربية المتحدة والكويت حريات مماثلة لشعوبهم".
تلك الإشارات ليست عابرة. هي تدلّ على أجواء دولية تبدلت. لم تعد تقف عند الشعارات فقط. في بداية الازمة السورية أُطلقت مصطلحات "الثورة" والديمقراطية و"الجيش الحر". جميعها أسقطها التطرف الذي انتهجته مجموعات تسلحت وتورطت بإرهاق الدماء. المعارضون الفعليون الديمقراطيون لم يكن لهم اي وجود فعلي على المساحة السورية. هذا ما يُرصد تفهمه في العواصم الغربية التي بشرت بالثورة.
من ضمن إشارات رسالة السيناتور ان عواصم العالم بدأت تُدرك ان الدعم التسليحي والمالي انصبّ على الإرهابيين لضرب الصيغة السورية المتعددة. والأهم ان بلاك أوضح مسألة لافتة بقوله: "الكثير من أهل ولاية فرجينيا يشاركون بالصلاة كي ينتصر الجيش العربي السوري وحلفاؤه على قوى الشر وكي يعود السلام قريباً إلى سوريا".
في فرنسا لفتت السيناتور ناتالي جوليت الى أن "هناك عدوا آخر غير تنظيم "داعش" الإرهابي يتمثل بالتشدد والسلفية"، وعبرت عن مخاوف من ظهور الإسلاموفوبيا مجددًا.
ذاك التشدد الديني بات محور التركيز الشعبي دولياً، وسط طلبات القضاء عليه، باعتباره المنتج للدواعش وإخوة هذا التنظيم الإرهابي. فبالنسبة الى الرأي العام ان "داعش" هو وليد "القاعدة" فكرا وممارسة واستراتيجية رغم الاختلاف في التكتيك.
لا يمكن بالتالي فصل "جبهة النصرة" عن "داعش" ولا اي فصيل يحمل اسماً إسلاميا متشدداً او نهجاً متطرفاً.
كانت بداية التحول الدولي بضرب "الاخوان المسلمين" في الدول العربية نسبياً كما بدا في مصر وتونس، وتدجين جزء منهم كحزب "العدالة والتنمية" في تركيا. لكن الضغوط الشعبية تدريجياً ستفرض الإطاحة بالمتطرفين.
كيف ذلك؟
كلام السيناتور الفرنسية او جوهر رسالة سيناتور فرجينيا الأميركي يدلان على متغيرات في مفهوم الشعوب للتمدد الاسلامي المتشدد. الجيل السابق من الإسلاميين كان مضبوطاً مثلاً في بريطانيا التي رعته في العقود الماضية، لكنها باتت الأشد قلقاً اليوم من ان تتحول لساحة مواجهة أمنية كما الحال مع فرنسا او ربما المانيا.
لا يقف جوهر ما طرحه السيناتوران عند حدود ضرورة المواجهة العسكرية او الامنية او وضع الضوابط. في الولايات المتحدة وفرنسا وباقي عواصم القرار كلام جدي عن وجوب محاربة التطرف الاسلامي عملياً. لا يمكن الاكتفاء بتدابير موضعية. النقاش يتوسع حول المناهج الدينية في الدول الاسلامية. ماذا عن المذاهب التي تبيح او تشجع سفك الدماء او لا تمنع القتل؟ ماذا عن الخطب والنصوص والكتب التي تعزز التشدد؟
ستبدأ العواصم الغربية بتطبيق قوانين معدّلة تبيح الغاء او منع او اتخاذ كل الخطوات التي تقيّد او تبدّل من المفاهيم السائدة التي يجري الترويج لها ثقافياً.
انها ليست حرب الحضارات بل فرض تصحيح المسارات. في رسالة السيناتور الأميركي إشارة الى المسلمين الجيدين والقصد غير المتطرفين، ما يعني ان الشعوب الغربية تستطيع ان تفرق بين تطرف يشوه الاسلام و اعتدال وتسامح يعبر عن جوهر الدين الاسلامي.
مخاطر الارهاب فرضت تشريح الأجندات الفكرية والثقافية والدينية. انها المعركة الحقيقية التي تنتظر المرحلة المقبلة. ومن هنا جاء اعتراف عواصم القرار الدولي بوجوب ان تكون سوريا "علمانية". والقصد هنا ليس المعنى المتعارف عليه للمصطلح بقدر ما هو التعددية لا الفئوية الدينية. هذا ما سينسحب على المنطقة، لا حباً بشعوبها بل خوفا من تمدد التطرف المفتوح بإتجاه الغرب.
روسيا في قلب تلك المعادلة. تقدمت في اول المسيرة في الحرب ضد الارهاب فأصبحت في موقع ريادي مقرر. والاعتداءات الإرهابية التي تقلق كل عواصم الغرب تضع الأوروبيين والأميركيين وراء الروس. هل تخطو تلك العواصم الى الامام في الحرب بكل المقاييس؟ على الاقل المسيرة بدأت مع سيناتورات أميركيين وفرنسيين يمضون خلف القيصر على الطريق الى دمشق.