للمرة الثانية في مراحل ارتدادات ​الحرب السورية​ على ​لبنان​، فاز ​حزب الله​ في معركة الرأي العام اللبناني، والمسيحي منه في شكلٍ خاص. لم يكن العونيون وحدهم من أشهروا تضامنَهم مع الحزب في معركته التحريرية لجرود ​عرسال​، بل أنَّ وسائل التواصل الإجتماعي سجّلت مواقف واضحة لناشطين قواتيين ومستقلين يعارضون سياسات حزب الله، لكنهم قدروا عالياً حرمة الشهادة على أرض لبنان.

جوهر هذا التضامن الوطني، المماثل لتأييد عمليات حزب الله في ​حرب تموز​ وقبل تحرير الجنوب، أنَّ منسوب «اللبننة» في نشاطه العسكري صافٍ، على خلاف مشاركته في الحرب على أرض ​سوريا​ المثيرة للجدل، ولو أنَّ مواجهة ​الإرهاب​ التكفيري، في التحليل السياسي الإستراتيجي، تربط لبنان وسوريا كحبل السرّة.

وهذه «اللبننة» والفائدة الوطنية، هي بالذات ما أفقدت شرائح اجتماعية وسياسية متخندقة في الماضي، صوابها.

المرة الأولى التي فقد فيها الفريق الذي يرفع الخطاب اللبنانوي السيادوي صوابه، كانتْ عند اهتزاز الركيزة الأولى لخطابه هذا، عندما ظهرَ عدوٌ جديد هو الوحش الإرهابي التكفيري. فقد أزاح هذا العدو، الغامض الملامح، من أمام «الوجدان المسيحي اللبناني» المخاطر التقليدية على «الكيان» و«السيادة»، والتي اعتبر كثيرون تاريخياً أنَّها متمثلة بالنظام السوري، ولاحقاً في حزب الله. ولم يكن نفي قوى «الأمانة العامة» (وزيارة عرسال الشهيرة لنفي) وجود الإرهاب، إلا تعبيراً عن الأزمة العميقة لهذه القوى، أمام الخسارة السياسية المتمثلة بفقدانها ركيزة خطابها.

وفي اللحظة الميدانية الحالية، أتتْ الضربة الثانية القاسية مع تبلور مصلحةٍ لبنانية سياسية وأمنية صافية في معركة الجرود.

وفي حين لجأ خطاب ما تبقى من «أمانةٍ عامة»، مع ظهور الإرهاب التكفيري، إلى محاولة ربط أسبابه ومنطلقاته عبثاً بمنظومة ما يعرف بالمحور السوري ــــ الإيراني وغيره، اعتمد اليوم مصطلح «الذمّية» تحديداً لدى المسيحيين، لتبرير هذا الدعم لحزب الله (لا بل التضامن الوطني المشروع)، وسقوط رهاناته. أضف إلى ذلك أن التلطي وراء محورية ​الجيش اللبناني​ في دورِه الطبيعي في حماية السيادة، لا يغطي سقوط الأقنعة، لأنَّ الذاكرة لا تزال حيةً وتشهد على من نفى الخطر الإرهابي وكبَّل أيدي الجيش.

على أنَّ القضية في هذا الشأن تبقى، أصلاً وأساساً، أخلاقية. شباب لبنانيون في عمر الورود اختاروا الإستشهاد في أرضِ لبنان في وجه وحشِ التكفير العفِن، فكيف لنا أن نسمح لأنفسنا بترف الحياد بينهم، وبين إرهابيين ــ غالبيتهم غير لبنانيين ــ يحملون مشروعاً تدميرياً للكيان اللبناني ولكل كيانات الإقليم؟ كيف لنا أن نلبس ثوب ذلك الحياد المرائي المُقرِف؟

إن الموقف من حزب الله وصراعاته يبقى في النهاية مرتبطاً بمدى المصلحة اللبنانية الوطنية التي يحققها. إن كان صراعه يصب في صناعة التوازن الإستراتيجي في مشرقٍ يعاني تاريخياً من «فراغ القوة» والتفتت البنيوي، فأنا معه لأنه يعزز استقرار لبنان، ويصنع درعه من قوته وليس ضعفه. وإذا كان يدعم نظاماً علمانياً، على أخطائه، أمام الوحش التكفيري و«الثورات» السلفية، فأنا لا أتردد في دعمه، مهما اختلفنا معه في منطلقات عقائدية وسياسية.

إن مصلحة لبنان ووجوده هي فيصلُ الحكم. وهذا لا يكون من خلال التخندق في دوائر مقفلة ماضوية، بل من مصالحة شُقت وبدأت بالتحقق، بين «ثوابت الوجدان المسيحي اللبناني» في محورية مصلحة لبنان، وامتدادٍ مشرقي في تحولاتِ الإقليم وانفجار مجتمعاته.