الأربعاء، في التاسع والعشرين من أيلول 1920، استفاق المهاجرون اللبنانيون على خبر إعلان دولة لبنان الكبير. وعنونت الصحف المهجريّة في الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية خبر النصر الكبير الذي طالما انتظره اللبنانيون، وعمل من أجله أدباء المهجر الذين غادروا لبنان تحت غطاء الليل خوفاً من الإعتقال، عبر البحار، ليكتبوا عن الإضطهاد العثماني آنذاك في كل بلد وصلوا اليه. رفع ادباء المهجر الصوت، على المنابر الأميركية والأوروبية، فصار لهم وطن في الأول من أيلول 1920.
استغرق وصول خبر إعلان دولة لبنان الكبير شهراً كاملاً، نفس الوقت الذي كان يقطعه المهاجر آنذاك من بيروت مروراً ببور سعيد، الإسكندرية، مرسيليا حتى يصل الى ميناء إيليس أيلاند في نيويورك حيث "مرقد عنزته" الأميركي المؤبّد. زفّت الصحف المهجريّة خبر النصر الكبير الى أبناء الجالية اللبنانية في كل أنحاء الولايات المتحدة الأميركية.
في 29 أيلول 1920، في نيويورك، نشرت صحيفة "مرآة الغرب" على صفحتها الأولى خبر إعلان دولة لبنان الكبير. خبر غسلَ عيون المهاجرين اللبنانيين بدموع الفرح.
"لبنان صار وطناً… وصار لنا علم… ورحل العثملّلي، لا فقر، لا حرمان، ولا ذل عسكر عثماني بعد اليوم".
"صار لنا وطن وعلم مع صورة الأرزة تتوسط العلم الفرنسي"، هكذا قالت الصحف الصادرة في بيروت في الأول من أيلول 1920. والحقيقة أن الفرنسيين استخدموا علمهم بالألوان الثلاثة: الأحمر، الأبيض والأزرق ووضعوا في وسطه الأرزة الخضراء رمز متصرفية جبل لبنان.
وعنونت صحيفة مرآة الغرب: صدر الأمر بتعيين حضرة الكومندان "ترابو" حاكماً على لبنان الكبير ريثما يتم سَنّ القانون الأساسي وتنتظم الأحكام.
في نيويورك حيث عاصمة اللبنانيين الأميركية أو ما يسمى بـ"سوريا الصغرى"، محال تجارية لا تعدّ ولا تحصى، بعضها تبيع الصحف اللبنانية، بالإضافة الى بعض المكتبات العربية التي تعرض جميع الجرائد والكتب والإصدارات، غير أن أكثر المبيعات هي التي تتم عبر الباعة الشبّان المتجولين الذين يتنقلون بين الأزقّة حيث يقطن أبناء الجالية اللبنانية.
عاش اللبنانيون الأسبوع الأخير من شهر أيلول 1920 بفرح كبير، قطعوا عملهم ليبدأوا سلسلة احتفالات ويتبادلوا نخب النصر على من كان برأيهم سبب هجرتهم وانفصالهم عن أحبائهم.
ان ولادة دولة لبنان الكبير ولّدت سؤالاً كبيراً لديهم. هل يعودوا الى الوطن الأم؟ سؤال صعبَت عليه الإجابة عليه حتى اليوم. تجمّعوا في ساحة منطقة "سوريا الصغرى"، افترشوها بضحكاتهم وزغاريدهم لمدة أسبوع. قدم "مطعم جبل لبنان" الشراب مجاناً، ووزّع متجر سعادة (ما يزال قائماً حتى اليوم) الحلويات الشرقية، في حين راح فريد العلم صاحب متجر "الأسطوانات السورية" يرفع صوت الموسيقى عالياً.. تجمّع الشبّان وعقدوا حلقات الدبكة اللبنانية أمام المتجر وامام كل متاجر منطقة "سوريا الصغرى". وفي ساحة كنيسة مار يوسف للموارنة في ما يسمى اليوم منطقة مركز التجارة العالمي، وساحة كاتدرائية مار نقولا في بروكلين. كانت عظات الكنائس ذاك الأحد مفعمة بالوطنيّة والنصر، فركزت كلمات الآباء على الحريّة ونهاية الإضطهاد والإنفتاح على اوروبا والعالم الخارجي. غسلوا ذكريات الظلم، رقصوا ودبكوا وقالوا الزجل اللبناني. انه اليوم الذي طالما انتظروه.
من الكنائس انطلقوا الى وسط مانهاتن في مدينة نيويورك في مسيرات فرح واعتزاز، حتى وصلوا امام مبنى جريدة "الهدى" حاملين العلميْن الأميركي، واللبناني الذي صمّمه ونفذه الفرنسيون، وراحوا ينشدون الزجليات القروية بنكهة النصر الكبير.
وكانت قصيدة للشاعر الزجلي حسين علي حمزة المولود في الخريبة قضاء الشوف عام 1870
لبنان يا لبنان وحياتك،
وحياة بساتينك وغاباتك،
بريد ان أرجع ليْك وموت،
ويقبروني بظل أرزاتك،
بريد ان ارجع ليْك وموت،
بكون في موتي أنا مبسوط،
لو من خشباتك نجّروا التابوت،
ومن ماء نبعك غسلوا جسمي،
وحاكوا كفاني من حريراتك...
اليوم، وبعد مئة عام يعود في الرزنامة والأيام، لكن المهاجرين تبدلوا، أبناؤهم ما زالوا يخبرون عن شوق أهاليهم للعودة الى لبنان، لكن رياح الغربة خطفتهم الى أرض بعيدة. منذ مئة عام رقص الآباء في يوم لبنان الكبير، ويبكي الأبناء اليوم على الدولة التي لم تعمّر سوى مئة عام وسط سلسلة من الحروب.
يستذكر المنتشرون اللبنانيون اليوم الأدباء الراحلون جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ومجموعة من الأدباء المهاجرين الذين رسموا لبنان الكبير بريشتهم حين وصلوا الأراضي الأميركية، فساهموا في تحرير لبنان من العثماني، من خلال مراسلاتهم السياسية ومقالاتهم حول الوضع في لبنان الى مراكز القرار في العالم.
وحده بقي حزيناً، غير فرحٍ بالنصر، ملكاً يحتل رفوف الكتب في بيوت اللبنانيين والعالم، هو "جبران" الذي لم يعجبه استقلال لبنان بنكهة اوروبية، وهو الذي طالما كان يحلم بحرية لبنان. ولعل مقالة "لكم لبنانكم ولي لبناني" التي ما تزال أيقونة الأحرار في لبنان، تشهد على غضبه الذي رسم لبنانه الحرّ، وجد بأن قادته استعانوا بالفرنسيين حتى يتخلّصوا من العثماني فصرخ وقتذاك: انتم تستبدلون وصايةً بوصايةٍ أخرى... فلكم لبنانكم ولي لبناني!.
ما عساه يروي اللبناني المهاجر لأبنائه في ذكرى "يوم لبنان الكبير"، كيف يخبرهم ما حلّ بلبنانهم الكبير! فهل عادت فرنسا لترسم لبناناً كبيراً ام صغيراً للمئوية الثانية المقبلة؟ ربما سيعلَن انتداب فرنسي جديد حتى ولو من بعيد لتتم مقولة "التاريخ يعيد نفسه".