تطلق عبارة "معمودية النار" في التمرينات العسكرية التي تجريها الجيوش لعناصرها، وهي تتسم بالقساوة والصعوبة الكبيرة. كثيرون اعتبروا ان لبنان يمرّ حالياً في هذه التمرينة القاسية، وهم على حق، الا ان السبب الرئيسي للاوضاع الحالية هو قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب فرض عقوبات اقتصادية قاسية على لبنان (علماً ان الادراة الاميركية تروّج انها تستهدف فقط حزب الله فيما الواقع معروف من قبل الجميع والمعاناة تطال الشعب البناني بأسره)، دون ان يجرؤ احد من الدول الشقيقة والصديقة على رفع الصوت والمطالبة على الاقل بعدم شمولية العقوبات وحصرها فقط بالحزب، فيما بات معلوماً ان التقصير اللبناني الفادح لمكافحة الفساد والهدر هو اساسي في المأساة اللبنانية الحالية ولكنه ليس جديداً ولم يطرأ اي تغيير اساسي عليه يفرض وصولنا الى الهاوية.
هذا العرض السريع يظهر بوضوح انه في ظل عدم القدرة على اجراء الاصلاحات اللازمة والضرورية للنهوض بالبلد بشكل تلقائي، ومع استمرار شريحة كبيرة من الشعب اللبناني في الانصياع لرغبات الزعماء ورؤساء الاحزاب والتيارات السياسية- وهو الرهان الناجح الذي يعتمده ترامب والغرب بشكل عام- يتم خلق الظروف لتوجيه اللبنانيين الى الانتفاض على حزب الله وتصويره على انه سبيل الخلاص الوحيد والا...
هذا الامر يضع الحزب امام اختبار "معمودية النار" التي تحدثنا عنها، وهو سبق ان خاضها عام 2005 اثر اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، اذ وجد الحزب نفسه مستهدفاً من الداخل والخارج على حد سواء، غير انه استطاع تخطي هذه المرحلة والتكيّف مع الاجواء التي سادت في تلك الفترة. ويعلم الخارج ان الحل العسكري الاسرائيلي ليس خياراً متاحاً وهو كان اختبر مثل هذه التجربة عام 2006 وكانت ثمرتها الفشل الذريع، ومن المستحيل تجربة مثل هذه الحلول على يد جيوش اخرى اكانت اميركية او اوروبية. ومع استبعاد هذا الحل، يلوح في الافق حل آخر وهو الصدام الداخلي فتكون الخسارة لبنانية محض وتكون النتيجة بالنسبة الى الخارج الربح الاكيد اياً كانت الحصيلة (اي ان بقي الحزب على قوّته ام فقد قسماً من نفوذه). ولكن هذا الحل دونه مخاطر كبيرة، وهذا ما يدركه الحزب تمامأً، وهو يتجنب اي مواجهة مباشرة مع الاطراف اللبنانية، لان اي اقتتال داخلي سيقوّض في كل الاحوال هيبة الحزب ونفوذه، وسيضعه في خانة "العدو" الدائم بالنسبة عدد كبير من اللبنانيين.
ولكن الخطورة ستطال في هذه الحال الغرب واوروبا تحديداً لان النفوذ الاوروبي سيتقلّص الى ادنى مستوياته في التاريخ، كما ان الروس ثد يدفعون ثمناً اغلى بكثير من غيرهم لانهم يتواجدون ميدانياً على الحدود اللبنانية من جهة ولن يكون بمقدارهم فرض قراراتهم بالقوة نفسها التي يفرضونها حالياً بعد تدهور الاوضاع في المنطقة كلها. اضافة الى ذلك، سيكون الخارج امام هجرة مضاعفة قوامها النازحين السوريين مع افواج كبيرة من المواطنين اللبنانيين الذين سيهربون من جحيم المواجهات والحروب وسيتوجهون الى الدول المجاورة ومنها الى العالم. واذا كانت الحرب السورية قد تركت آثاراً كبيرة على خريطة المنطقة، فإن الحرب في لبنان ستعيد تشكيلها من جديد وهو ما لا يدخل في حسابات احد.
في الخلاصة، يعلم الجميع ان اشتداد الازمة الاقتصادية والمالية في لبنان يضع حزب الله امام اختبارين احلاهما مرّ، وقد لا تنفع الاستراتيجية التي اعتمدها عام 2005 لمواجهة المشاكل التي اعترضته في حينها، الا ان المقاربة التي سيعتمدها يجب ان تكون مميزة كي تصمد امام خطر الجوع والفقر، وهما افتك من الاسلحة النارية، ولو ان شبح الحرب والفوضى الشاملة يبقى بالنسبة الى العديد من المتابعين امراً مستبعداً.